الثلاثاء، سبتمبر 26، 2017

ما الفلسفة؟


  • عشت مع الفلسفة طالبا في الجامعة لمدة ثلاث سنوات وعشت معها لمدة ربع قرن تعلما وتعليما، ولطالما تساءلت وسئلت عن معنى الفلسفة فكنت أجيب تبعا للموقع والموقف - موقع الأستاذ مع الطلبة أثناء الدرس، فأقول قال فلان قديما وقال فلان حديثا وقول فلان مكمل أو مفصل لقول فلان أو أنه يعكس فلسفة عصره أو مصره أو طائفته ... 
  • أما الموقف المعبر عن الرأي الخاص بي فكنت أجيب سواء من موقع الأستاذ المقيد بالتزامات المربي الذي لا يستغل موقعه للترويج لآرائه الخاصة أو موقع المثقف المتحلل من هذا القيد، كنت أجيب بما سيأتي في نهاية كلامي هذا. 
  • ولقد اعتقدت في وقت ما أن السؤال "ما الفلسفة؟" قد تجاوزه الزمن لكني اكتشفت أنه سؤال مهما قيل أنه تقليدي إلاّ أنه ما زال مثيرا للفضول، وكلما ظن المرء أنه قد تقادم اكتشف أنه عصي على البِلَى، إنه سؤال متجدد باستمرار ... فوجدتني مدفوعا إلى أن يكون لي قول فيه وهو التعريف الذي وصلت إليه متخذا مفهوم العقل كمعيار في التعريف فأقول: 
  • "إن الفلسفة هي أن توظف عقلك وتبلغ به أقصى مداه لكن إذا تجاوزت هذا المدى فأنت واقع لا محالة إما في الترف أو الخرف". 
  • وهذا ما قد وقع فيه الكثير من منتحلي الفلسفة بالحق وبالباطل في القديم وفي الحديث فشغلوا بتوافه الأمور ومبتذلها ووصلوا إلى اللامعقول كأن يزعم بعضهم أن من مقتضى الحفاظ على حق المولود أن لا نحدد جنسه إن كان ذكرا أو أنثى إلى أن يبلغ سن الرشد القانوني فيحدد هو بنفسه جنسه فإذا كان خلق ذكرا ورضي بذكورته يعلن أنه يقبل أن يكون كما وُلِد وإذا لم يعجبه جنسه فله أن يغير خلقه. 
  • سقت هذا المثال لأوضح معنى الخرف باسم العقلانية ومشتقاتها. 
  • ولا يفهمن أحد من معنى المدى أن للعقل حدودا، إنما أقصد بالمدى الحد الذي ينتهي إليه نظرك. هذا الحد لك أن تقول فيه عما تراه عينك أو تسمعه أذنك أو تستدل عليه بالمنطق الاستنتاجي والاستقرائي، أما ما لم يبلغه نظرك فلا تقل فيه شيئا إلاّ إذا تقدمت أكثر حتى يتسع المدى ثم قل فيه بنفس المنطق. 
  • وحتى أقرب لك الفكرة أقول: افرض أنك مسافر، وأنك على مدى طول الطريق تُحَدِّث عما تراه أمامك، فتقول إني أرى الآن في الأفق البعيد جدا جبلا، فيقول لك رفيقك: ألا ترى ما في سفحه من جهة اليمين؟ إنها مزرعة فلان، فتقول له أنا لا أراها إنك تسخر مني لكن بعد لحظات تقول له آآآه معك حق لقد رأيتها الآن .. إنك أحَدُّ مِنِّي بصرا وأبْعَدُهُ. 
  • تواصل سيرك فترى أشياء أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية إلاّ إذا توقفت عن السير. 
  • هكذا أفهم حدود العقل. له مدى منظور هو الدائرة التي تقف في مركزها ويكون نصف قطرها هو الطول الذي يبلغه شعاع الرؤية. 
  • وتبقى هذه الدائرة قابلة للاتساع طالما تقدمت في سيرك، لكنك كلما توسعت دائرة معرفتك واكتشفت جديدا اكتشفت معه مقدار جهلك. 
  • وقديما قال سقراط - تواضعا منه - "إني لا أعرف إلاّ شيئا واحدا وهو أني لا أعرف شيئا". 
كما قال الشاعر العباسي أبو نواس:
"قل لمن يدعي في العلم فلسفة * * * علمت شيئا وغابت عنك أشياء"
وصدق الله إذ يقول "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا".

الخميس، ديسمبر 24، 2009

الظاهرة الدونكيشوطية في المقابلة الجزائرية المصرية


الكاتب / عبد الوهاب بوزحزح


الدونكيشوطية اسم مستوحى من رواية بعنوان: "دون كيشوط دي لامانش" DON QUICHOT DE LA MANCHE للكاتب الإسباني "ﭭـال دي سيرفانطيس" " MIGUEL DE CERVANTÈS". خلاصة القصة أن "دون كيشوط" وهو بطل الرواية، من فرط قراءته لقصص أبطال الفروسية في العصور الوسطى، تأثر بهم وقرر أن يفعل مثلهم وأراد أن يكون فارسا متجولا يحارب الأشرار والظالمين أنّى وجدهم وينصر الضعفاء والمظلومين. فتسلح بما أمكنه مما وجده في مستودع بيته. بزة حديدية صدئة - حربة قديمة - سيفا صدئا - حصانا هرما وانطلق ، مرفوقا بخادم له ، يجوب القرى الإسبانية بحثا عن الأشرار وطلبا للمغامرة. وقد خاض في مغامراته هذه معارك طاحنة لكن مع الطواحين الهوائية التي كان يتخيلها وحوشا وأغوالا، ومع قطعان الأغنام التي كان يتخيلها جيوشا جرارة.
وقد أصبحت الدونكيشوطية عَلَما على ظاهرة مَرَضية نفسية قد تَعْرِض للفرد كما قد تعرض للجماعة. ومثل أي مرض ، فإن لها أسبابا وأعراضا وآثارا. أما الأسباب فترجع إلى وجود خلل في شخصية المريض ناشئ عما حُشِيَ به عقلُه من أفكار خاطئة وقيم زائفة. أما أعراضه فهي أن يتوهم المريض وجود عدو شرير يجب مقاتلته. أما آثاره فهي خوضه لمعارك طاحنة دفعا لشر هذا العدو الوهمي ونصرة للحق والعدل الوهميين.
هذه القصة يمكن إسقاطها على الواقعة الجزائرية المصرية التي جرت قبيل وخلال وبعد مباراة 14 نوفمبر بملعب القاهرة ومباراة 18 نوفمبر بملعب المريخ بأم درمان بالسودان. إن ما جرى بين البلدين الشقيقين مما رأيناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا وعشناه بكياننا إن هو إلا صورة من صور الدونكيشوطية ، وظفها النظام المصري قبل ظهور النتيجة النهائية لغرض لم يكن يخفى على ذي لب ، واستمر في توظيفها بعد ظهور النتيجة النهائية بشراسة لغرض آخر مع تأجيل الغرض الأول إلى حين توفر الظرف الملائم ، لأن هدف "عنتر يحي" أفشل الخطة من أولها إلى آخرها. فكأن هذا النظام قام بما يشبه الانسحاب المؤقت من ساحة المعركة، وهو يحتاج إلى حماية لظهره تؤمن له العودة السليمة بأقل الأضرار وربما ببعض المكاسب الوهمية يجنيها في طريق العودة كما تفعل الجيوش المنسحبة مع من تصادفهم من مدنيين عزل فتنتقم منهم وتدخل هذا في حساب قتلى العدو.
إن هذه الواقعة في ظاهرها معركة وهمية خاضها "دون كيشوط دي ليجيبت" "DON QUICHOT DE L’EGYPT" ضد عدو وهمي اختلقه النظام "الإيجبتي"؛ لكن حقيقتَها خُطَّةٌ مُدَبَّرَةٌ لهدفين على الأقل. الأول هو تلهية الشعب المصري عن المشاكل التي يعيشها مع هذا النظام ، والثاني هو تمرير مشروع التوريث، وهو الأهم.
* * *

ما هي عناصر الدونكيشوطية في هذه الواقعة؟
هناك عنصران خاضا هذه المعركة بشكل سافر وعنصر ثالث دخلها خفية والعناصر الثلاثة هي:
1.            "دون كيشوط دي ليجيبت": وقد اختار له النظام، بأطرافه الرسمية وغير الرسمية، الغوغاء من بلطجية
الشباب المصري لأنه العنصر المؤهل لتقمص شخصية "دون كيشوط" لأن له قابلية للاقتناع بأن ما يفعله عملٌ بطوليٌ يدخل في باب الوطنية المصرية. لكن لن يتحول إلى "دون كيشوط" إلا إذا تشبع بقيم "دون كيشوط" الزائفة. هنا يأتي دور العنصر التالي من عناصر الدونكيشوطية وهو:
2.            "خَزُّ مٍصْرَ": ولا أريد بالخز هنا ذلك القماش الفاخر المصنوع من الحرير، إنما أريد به المعنى المعلوم   والمشهور في لهجتنا الجزائرية وهو ما يتراكم في قاع المستنقعات من أوساخ وقذارة، وقد درجنا على التعبير عن الحال التي تنقلب فيها الأوضاع فتصبح رأسا على عقب بقولنا "طْلَعْ خَزّْها عْلَى ماها" أي أن الحثالة أصبحت هي الماسكة بالزمام أو أن العيوب التي كانت أسرارا انكشفت. ولعل استعمال كلمة "خَزٍّ" وهي، اسم لقماش فاخر، للتعبير عن الوسخ والقذارة، هو من باب استعمال اللفظ بنقيض معناه أو بعكس معناه وذلك لغرض التهكم. وإن مصر في هذه الواقعة قد طَلَعَ خَزُّها (بالمعنى المقصود) عَلَى مائِها، لأن "حُثالتَها" قد طغت على عقلائها وسدت عليهم كل منفذ فغاب صوت العقل فيها. وأرجو أن يكون غيابا مؤقتا وإلا فإنه سيصدق على مصر العبارة العربية المشهورة "إذا كان أول الدن درديا فكيف بقاعه". وظني بمصر أنها أرض الكنانة ولا بد أن تسترد يوما ما كنانيتها المغتصبة أو المرهونة لدى هذه الحثالة.
والحثالة التي أقصدها في هذه الموقعة هي ذلك الجيش من الثرثارين المتمثلين في:
- بعض الفضائيات المصرية الخاصة والتي حققت لنفسها شهرة منقطعة النظير في السب والشتم والتعيير وزرع الفتنة بين الشعبين الشقيقين والتحريض باختلاق الأكاذيب والتضليل الإعلامي.
- بعض الصحف المصرية الخاصة والعمومية.
- طائفة من الفنانين من راقصات ومغنين ومغنيات وممثلين وممثلات الذين قاموا في هذه الواقعة بتمثيلية وقوعهم ضحية اعتداء جمهور المناصرين الجزائريين، وراحوا خلال هذه التمثيلية ينفقون على الشعب الجزائري مما عندهم من أقذع الأوصاف التي تراكمت في نفوسهم من طول مكثهم في الوسط العفن.
- أبرز الهيئات الرياضية المصرية وعلى رأسها الاتحادية المصرية لكرة القدم بزعامة رأس الفتنة فيها، فلا ننسى تحريضَه المفضوح: نريد ثمانين ألف مقاتل، زلزلوا عليهم الأرض...وغيرها من التصريحات اللامسؤولة. وكذا المجلس القومي للرياضة. وهما هيئتان رسميتان، ودخولهما المعترك يعني دخول النظام الرسمي المصري بشكل سافر.
- ويدخل في باب الحثالية تلك التصريحات الصادرة عن شخصيات رسمية في النظام المصري بعض منها لبس عباءة المواطن المصري. فهذه الشخصيات قطعا ليست من الغوغاء لكن تصريحاتها ليست من طيب كلامها بل من سقطه. لأنها تصريحات مبنية على الكذب والتضليل ناهيك عما فيها من طعن وسب وشتم للشعب الجزائري ، وما درى هذا أنه بكلامه المؤذي هذا يسئ إلى نفسه وبلده وليس إلى من شتمه.
وقد حُدِّدَت مهام هذا العنصر في الخطة في خلق أسباب الدونكيشوطية بإقناع الشعب المصري بأنه يخوض معركة شرف وكرامة. ولا يخفى ما لدور الإعلام في عصرنا من تأثير في العامة وحتى الخاصة، فهو أشبه بسحرة فرعون إذ خُيِّلَ للغوغاء من الشعب المصري من سحر إعلامهم أن الجزائر شعبا وحكومة ونظاما وتاريخا "أفعى تسعى" تريد أن تلدغهم. وأن مجد مصر وكرامة مصر في خطر ويجب الدفاع عنهما .وبهذا التخييل والتضليل كونت قناعة لدى فئة من الشعب المصري وهم الغوغاء بأن مصر أم الدنيا هي الأجدر بزعامة العرب في كل شيء، وأن فريقهم الوطني هو الأحق بالذهاب إلى المونديال لأنه بطل إفريقيا لعدة مرات منها في 2006 و2008 ويجب أن يفوز في هذه المقابلة بأي وسيلة، وإذا لم يفز فمعنى هذا أنه تعرض لمؤامرة، وأن وطنيتهم المصرية تقضي بنصرة فريقهم بأي وسيلة. واقتنع الغوغاء المساكين بهذه "القيم الزائفة" التي شكلت في قصة "دون كيشوط" عُنْصُرا مرضيا في شخصيته فكان هذا من أسباب ظهور "دون كيشوط دي ليجيبت".
3.    التلفزيون المصري الرسمي وإن كان بدرجة أقل. وربما اضطر إلى الدخول المباشر في هذه الجبهة، للدعم المعنوي واسترضاء للغوغاء، وإلا فإنه ليس من الحنكة في شيء أن يدخل النظام الرسمي بشكل سافر، ما دام ينوب عنه جهاز الحثالة.

* * *

ما هي أعراض الظاهرة الدونكيشوطية؟
أما أعراضها هنا فهي تَوَهُّمُ هذا "الدون..." بأن العدو هو "الجزائر" من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، في ماضيه وحاضره.
أما آثارها فهي خوض الغوغاء لمعارك طاحنة ضد كل ما هو جزائري، إذ تخيلوه غولا يريد أن يأكلهم أو جيشا يريد أن يغزوهم كما تخيل "دون كيشوط" الطواحين الهوائية غولا وقطيع الأغنام جيشا جرارا.
وجرت المعركة على جبهتين:
الأولى: قنوات الإعلام الفضائي والمكتوب والإلكتروني. وللحق فقد بادلهم غوغاء من الجزائر، لكن عبر المنافذ غير الرسمية أو شبه الرسمية وذلك من خلال بعض الصحف المكتوبة وعبر الأنترنيت، على عكس المنافذ التي نفس منها غوغاء مصر عن مكبوتاتهم.
الثانية: أرض مصر من 12 نوفمبر 2009 يوم نزول الوفد الجزائري "الرسمي" أي فريق كرة القدم والطاقم الفني، والوزير الجزائري للشباب والرياضة، ورئيس الإتحادية الجزائرية لكرة القدم، والسفير الجزائري لدى الجمهورية المصرية ولدى الجامعة العربية حتى يوم 15 نوفمبر وهو يوم مغادرة الفريق الجزائري والوفد المرافق له ومعه الجمهور الجزائري المناصر له، أرضَ مصر نحو السودان. وعلى هذه الجبهة لم يَنْجُ من بلطجة غوغاء مصر لا فريق كرة القدم ولا الجمهور ولا حتى الجالية الجزائرية المتواجدة في مصر والتي ما زالت تعاني حتى هذه اللحظة.
* * *

ما موقع النظامين المصري والجزائري في هذه المواجهة؟
لا يخفى أن كل نظام يريد لفريقه الفوز. وأن هذا الفوز يحسب ضمن إنجازاته الحسنة. وهذا أمر مشروع لذا يجب التسليم بأن لكل دولة الحق في نصرة فريقها بتوفير كل شروط التأهل، وإلا فما هو مبرر وجود وزارة خاصة بالشباب والرياضة ، وما هو مبرر وجود هيئة وطنية لكرة القدم، وما هو مبرر وجود سياسة في مجال الشباب والرياضة. فلمصر الحق في هذا كما للجزائر الحق في هذا لكن دون أن يتجاوز أي طرف قواعد اللعبة أو المواجهة.
·       موقع النظام الجزائري
من جانب النظام الجزائري فإن كل تصرفاته في هذه الموقعة، بداية من مقابلة الذهاب وحتى بعد تأهل الفريق الجزائري، لم يتجاوز الحدود. فقد قام بواجب الضيافة للفريق المصري والوفد المرافق له في جوان 2009 ولم يتعرض لأي أذى إلا في مخيلة الدونكيشوطيين أو على ألسنة الحثاليين. لكن لما اكتشف يوم 12 نوفمبر أن النظام المصري تجاوز الخطوط الحمراء في دعم فريقه وعرف أن المقابلة تحولت من مقابلة في كرة القدم بين فريقين إلى مواجهة بين نظام في حجم النظام المصري بمختلف أجهزته وتوابعه: الرئاسة - الأمن - الإعلام - والغوغاء - والحثالة، وبين فريق كرة القدم الجزائري، أي بين دولة بأكملها في مواجهة 22 لاعبا مع الطاقم الفني والوفد المرافق له، حين عرف النظام الجزائري هذا تدخل بثقله لكن دون أن يتجاوز حدود القانون وذلك بتسهيل عملية نقل جمهور المناصرين بتسخير أسطول جوي استعمل فيه طائرات نقل تابعة للجيش الوطني الشعبي. وبدخول النظام الجزائري في هذه المقابلة أصبحت المواجهة متكافئة فكانت النتيجة: (الفريق الجزائري 1) (الفريق المصري 0) ، (النظام الجزائري 1) (النظام المصري 0). ومن الآثار الجانبية لهذه المواجهة آثار مرغوبة استفاد منها النظام السوداني تمثلت في نجاحه الباهر في تنظيم مقابلة القرن هذه، ولا شك أنها تساعد في التخفيف من الضغط الدولي الممارس ضده من قبل قوى الاستكبار العالمي وبتواطؤ من بعض الأشقاء والجيران. ومما له دلالة على أن النظام الجزائري لم يتجاوز الحدود، وأنه أعطى كل الضمانات للرئيس السوداني، أن هذا الأخير ما كان ليسهل دخول الجمهور الرياضي الجزائري دون تأشيرة لو لمس أو رأى مؤشرا على أن الجمهور الرياضي الجزائري آت للسودان من أجل الشغب، لأن هذا سيضع الحكومة السودانية في مأزق جديد، وسيزيد من متاعبها مع ما يسمى بالمجتمع الدولي والرأي العام العالمي، ولم يخيب الجمهور الجزائري الرياضي ظن الحكومة السودانية، بل أرى أن من خيب ظنها هو فئة الكذابين من الحثاليين بزعمهم أن الجمهور الجزائري ارتكب مجزرة في حق أنصار الفريق المصري وسيكشف التاريخ القريب أو البعيد كذبهم.
·       موقع النظام المصري
أما النظام المصري فقد دخل بشكل سافر كطرف رئيسي في هذه الواقعة سواء قبل مقابلة 14 نوفمبر بالقاهرة أو بعد مقابلة 18 نوفمبر بأم درمان.
أما في القاهرة فبالضغط والبلطجة وبتواطؤ من جهاز الأمن. والوقائع التي رآها كل العالم لم يبقَ معها أي شك في تورط النظام المصري وعما قريب ستتحول إلى حقائق بديهية وأحداث تاريخية مشهورة.
أما بعد نهاية المباراة الفاصلة بأم درمان وتأكد إقصاء الفريق المصري فقد دخل المعركة بشراسة غريبة وذلك
بإيهامه المصريين بأن أنصار الفريق المصري وقعوا ضحية عنف أنصار الفريق الجزائري وهو يعلم بأن هذا غير صحيح ومع ذلك تعمده لعدة أسباب منها:
- امتصاص الغضب الجماهيري، إذ سمح للجماهير الغاضبة من الفشل في التأهل، بتفريغ هذا الغضب في العدو الوهمي ألا وهو الجزائر، الذي ارتكب أنصارُ فريقه الرياضي مجزرة وهمية في حق أنصار الفريق المصري، وأن هذا الغضب ضرب من التعبير عن الغيرة (الوهمية) على كرامة مصر المهدورة في هذه المقابلة؛ كل هذا التوجيه من النظام المصري غرضه صرف اهتمام المصريين ولو مؤقتا عن المشاكل الحقيقية والمعاناة الحقيقية والمهانة الحقيقية التي يعيشها الشعب المصري.
- تغطية الفشل في امتلاك الورقة التي كان النظام يريد أن يستثمرها في تمرير مشروع التوريث؛ وقد تحدثت بعض الصحف عن الخطة التي أعدها أنصار التوريث من التحضير للاحتفال بالفوز من الخرطوم والتي كانت تقضي بأن يدخل الوفد الرسمي المرافق للفريق الرياضي - والذي يرأسه "جمال مبارك" - محتفلا بالفوز في موكب حافل على طريق البر ويدخل مصر وجمال مبارك محمول على الأكتاف والطابور المرافق له يهتف "جمال رئيسنا" وهذه هي "السانحة" التي يستغلها النظام في التسويق للمشروع على أنه مطلب جماهيري. هذا المنقول قد يحتمل الخطأ في التفاصيل لكن المؤكد أن توظيف المقابلة في تمرير مشروع التوريث لا يخفى على ذي لب.
- وقد يضاف إلى هذين السببين سبب آخر - وقد يكون ثانويا - وهو دافع الانتقام ممن كان سببا في فشل الخطة، وهو فريق كرة القدم الجزائري الذي استمات في الدفاع عن حقه حتى انتزعه رغم ممارسات المصريين المشبوهة التي ظهر بعض منها وسيظهر الباقي في المستقبل. ومن وراء الفريق الرياضي النظام الجزائري الذي أعاد الأمور إلى نصابها بعدما اكتشف أن المواجهة في القاهرة كانت بين دولة مصر بأكملها وفريق كرة القدم الجزائري، وبين هذا وذاك الجمهور الجزائري الذي ناصر فريقه بحماس دون أن يعتدي على الجمهور المصري لا في القاهرة ولا في الخرطوم. هذه الأطراف الثلاثة كانت هي السبب في فشل خطة المخططين لذلك كانت هدفا مشروعا لهذه الحملة المسعورة.
إن المعركة الحقيقية بالنسبة للنظام المصري انتهت بخسارة الفريق المصري لكرة القدم وضياع الورقة التي يحتاجها لتمرير مشروعه، وهو يعلم هذا، لذلك اختلق هذه المعركة الوهمية، لعله يعوض عن الخسارة الحقيقية بخوض معركة وهمية لحفظ ماء الوجه، إذ أنه أراد من خلالها الإيهام بأن خسارة الفريق المصري ليست نتيجة تقصير من جانب مصر إنما بسبب مؤامرة تعرضت لها "مصر"، وهذا نوع من التغطية على الفشل، بدليل تصريحهم أنه "لو تأهلنا لعدنا من الخرطوم بخمسمائة جثة". وأنا أقول: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا".
إن هذه المؤامرة الوهمية لا وجود لها إلا في أذهان الغوغاء من الجماهير الغاضبة، أما العقلاء من المصريين -
الفئة التي تعففت عن الخوض في الوهم - فهي تعلم بأنه لا مؤامرة ولا هم يحزنون، وحتى الحثالة من المصريين والذين تصدروا الفضاء المصري والساحة المصرية، يعلمون هذه الحقيقة ولكنهم مع هذا تمادوا في ترديد الأكاذيب حتى كادوا يصدقون أنفسهم فيها، كما فعل أشعب قديما إذ أنه أراد مرة أن يصرف عنه صبية تجمعوا حوله وأخذوا يضايقونه ويُعَيِّرونه ويلعبون به ، كما تفعل الصبية عادة بالمجانين، فاهتدى إلى حيلة ليصرفهم عنه فأشار لهم إلى محل هناك وقال لهم، كذبا، إنه يوزع الحلوى بالمجان، فأسرع الصبية إلى ذلك المحل، وبينما هم متجمعين عنده طمعا في أن يعطيهم صاحبُه الحلوى التي وعدهم بها "أشعب"، إذا بهذا الأخير يرجع إلى نفسه ويقول: لعل هذا المحل يوزع الحلوى حقا بالمجان، وعلى الفور ركض نحوه والتحق بالصبية الذين كذب عليهم، طمعا في أن تكون كذبته صادقة. وما أشبه الذين اختلقوا "دون كيشوط دي ليجيبت" ب "أشعب" هذا.
وقد استعمل النظام المصري في هذه الموقعة خطابين رسميين أحدهما حقيقي والآخر ظاهري، كما تصرف بطريقتين متناقضتين.
أما الخطاب الرسمي الحقيقي فهو تصريح السفير المصري بالسودان حيث شكر الحكومة السودانية وهنأها على نجاحها في تنظيم هذه المقابلة. والنجاح يعني أنه لم يحصل أي شيء مما روج لها الإعلام المصري. بل إنه صرح حتى بعدم حصول اعتداء من الجمهور الجزائري على الجمهور المصري في السودان.
أما الخطاب الرسمي الظاهري، وهو لا يعبر عن الحقيقة التي يعرفها، فهو موجه فقط للاستهلاك المحلي داخل مصر لنفس الغرض الذي أُشْعِلت من أجله المعركة الوهمية، وهو خطاب غير صريح، بل فيه تلميح. وقد جاء على لسان الرئيس "حسني مبارك" أمام البرلمان المصري حيث قال "أن كرامة مصر من كرامة شعب مصر، ومصر لن تسمح بأن تُمَسَّ كرامة الشعب المصري". إن العبارة في حد ذاتها صحيحة ومشروعة، بل وإن النظام، أي نظام، يفقد هيبته أمام بلده وأمام غيره إذا لم يفعل ذلك. غير أن ورودها في سياق ظرفي معلوم يجعل الأنظار تتجه إلى أن المقصود بهذا الخطاب هو الجزائر التي حرضت، حسبما يوحي به الخطاب، الجمهورَ الرياضيَ الجزائريَ على الاعتداء على الجمهور الرياضي المصري في الخرطوم، وقصرت في حماية المصريين المتواجدين في الجزائر.
أما التصرف فقد تصرف بطريقتين:
الأولى: للاستهلاك أولا داخل مصر ولابتزاز النظام الجزائري ثانيا. وتمثل في:
- استدعاء السفير المصري في الجزائر للتشاور
- استدعاء السفير الجزائري في مصر للاستفسار أو الاحتجاج
- مطالبة الجزائر بالاعتذار والتعويض عن الأضرار التي لحقت المصريين المتواجدين في الجزائر
الثانية: لم يتغير معها أي شيء في العلاقات الديبلوماسية، بل بقيت العلاقات تسير بشكل طبيعي ، حيث      
بقيت الزيارات العملية الرسمية مستمرة ، زيارة وزير الطاقة "شكيب خليل" للقاهرة ، زيارة مستشار رئيس الجمهورية الجزائري لدى حقوق الإنسان "رزاق بارة" ، دعوة وزير الثقافة المصري "فاروق حسني" الجزائر للمشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي سيقام في جانفي 2010.

* * *

ما هي خسائر هذه المعركة؟
أما الخسائر فلا حصر لها، وهي نتيجة طبيعية لكل تصرف أرعن لا يضع صاحبُه في حسابه إلا مصلحتَه الشخصيةَ الضيقةَ، غير أن أول متضرر منها هو مصر ذاتها. وإن هذا التصرف أشبه بما قام به "شاور" الوزيرُ المصريُ في عهد آخر الحكام الفاطميين من حرقه لمدينة القاهرة كخطة في دفاعه عن وزارته.
من هذه الخسائر:
- تضرر سمعة مصر في نظر البعيد والقريب، العدو والصديق.وقد تحدث الأستاذ فهمي هويدي عن هذه النقطة في سياق رصده لبعض الخطايا التي رتكبها الإعلام المصري في هذه الموقعة حيث قال: "الخطيئة العاشرة والأخيرة أن مصر في الأزمة التي مرت صغرت وفقدت الكثير من حجمها كأكبر دولة عربية. صغرها الخطاب الإعلامي الذي قدمها إلى العالم الخارجي في صورة غير مشرفة، حتى قال لي بعض المصريين المقيمين بالخارج إنهم كانوا يتوارون خجلا مما كانوا يسمعونه في البرامج التلفزيونية المصرية. وصغرها أنها حين هزمت في الخرطوم بعد الأداء المشرف لفريقها فإنها تمسكنت ولعبت دور الضحية التي تستحق الرثاء والعطف، وصغرها أنها ملأت الفضاء ضجيجا وصخبا، وعجزت عن وعجزت عن أن تقدم دليلا مقنعا يؤكد ما تدعيه" (نقلا عن موقع الشهاب للإعلام تحت عنون بعد صدمة الخرطوم - الخطايا العشر)
-     المصالح المتبادلة بين الجزائر ومصر الاقتصادية منها والثقافية. غير أن المتضرر في هذا الجانب هو الطرف المصري لا الجزائري. فليس للجزائر استثمارات في مصر ولئن وجدت فهي ضئيلة بالمقارنة مع الاستثمارات المصرية في الجزائر. وليس للجزائر عمالة جزائرية في مصر. فأول متضرر هو الشركات المصرية والعمالة المصرية في الجزائر وعلى رأسها شركة أوراسكوم. وليس للجزائر صادرات من الإنتاج الفني نحو مصر، بل إن المسلسلات المصرية هي التي ستتضرر من المقاطعة الفنية والثقافية، لذلك فإن ما فعله فنانو مصر من الدخول في هذه المعركة والدعوة لمقاطعة الجزائر فنيا وثقافيا هو أشبه بمن يحرق بضاعته ويهدم محله في السوق.
-     تضرر العلاقات الديبلوماسية. فقد اهتزت بفعل تورط النظام المصري في هذه الموقعة بدافع الأنانية والحسابات العائلية، وألحقت ممارساتُه في هذا السبيل أضرارا بالجزائر دولة وشعبا وتاريخا، وتمادى رغم هذا في الكذب والتضليل وعدم الحشمة بمطالبته الجزائر بالاعتذار وما أروع ما قاله "أحمد مطر" في هذا:
يَلْطِمُني ويَدَّعِي أَنَّ فَمِي قام بِلَطْمِ كَفِّهِ! يَطْعَنُنِي ويَدَّعِي أن دَمِي لَوَّثَ حَدَّ سَيْفِه!
وكرد فعل طبيعي من النظام الجزائري، وهو رد في نظري متزن، أن الجزائر ستعيد النظر في الأساس الذي قامت عليه العلاقات الجزائرية المصرية لحد الآن، وهذا حسب تصريح وزير الخارجية الجزائري.
- تضرر العلاقات الأخوية والتاريخية بين الشعبين الشقيقين. فقد أتاحت هذه الدونكيشوطية الفرصة لفئة من الطرفين ممن لا يؤمنون بالعروبة، لأن يدعو لقطع الصلة مع العرب. ولئن جاءت هذه الدعوة في الجزائر نشازا وذلك على لسان فاروق قسنطيني إذ دعا إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع مصر فإن هذه الدعوة في مصر كانت بصوت هادر من الحثالة والغوغاء. وهذا ما استشفه فهمي هويدي وأشار إليه في مقاله بقوله: "الخطيئة الثالثة أن الأحداث التي أعقبت مباراة الخرطوم بوجه أخص جرى تصعيدها في الإعلام المصري، فتحولت من اشتباك مع المشجعين إلى اشتباك مع الدولة والشعب الجزائري في تعميم مخل وخطير. إذ في ظل الانفعال والتجاوز الذي شهدناه أهين الشعب الجزائري وجرحت رموزه في وسائل الإعلام المصرية، على نحو لا يليق بإعلام محترم ولا ببلد متحضر. ولا أريد أن أستعيد الأوصاف التي أطلقتها أغلب وسائل الإعلام المصرية في هذا الصدد لشدة الإسفاف فيها وبذاءتها، لكني فقط أنبه إلى أمرين، أولهما أن هذه اللغة التي استخدمت من شأنها أن تحدث شرخا عميقا في علاقات البلدين لن يكون علاجه والبراء منه سهلا في الأجل المنظور، الأمر الثاني أن القطيعة التي أفضى إليها هذا الأسلوب هي أثمن هدية قدمناها إلى دعاة الفرانكوفونية المعادين للعروبة والإسلام في الجزائر، ذلك أننا أبدينا استعدادا مذهلا لأن نخسر شعبا بأكمله لأننا لم نفز في مباراة لكرة القدم وتعرضت بعض حافلات المشجعين المصريين لاعتداءات من جانب نظرائهم الجزائريين، وإذا قال قائل بأن الإسفاف الذي صدر عن الإعلام المصري كان له نظيره في الإعلام الجزائري، فردي على ذلك أن ما صدر عن الإعلام الجزائري كان محصورا في صحيفة خاصة أو اثنتين في حين أن الإعلام الرسمي التزم الصمت طول الوقت، بعكس ما جرى عندنا حين شارك الإعلام الرسمي أيضا في حملة الإسفاف". (من مقال لفهمي هويدي منشور في موقع الشهاب)
* * *

والآن بعد أن خفت العاصفة، أظن أنه قد حان وقت مراجعة الأمر بعين العقل والحكمة والسعي في معالجة الأضرار التي أحدثتها هذه الواقعة. ومما ينبغي التأكيد عليه:
- ضرورة التمييز بين الغوغاء وعموم الشعب المصري:
ذلك أن الوضع الذي تطغى فيه الحثالة وتستبد بالأمور، من سيطرة على الإعلام ومؤسسات الدولة، يُهَمَّشُ
فيه الفضلاء من عامة الشعب وخاصته فلا يظهر لهم صوت ولا أثر ، خاصة في معمعة المعركة ، فينفرد الحثالة حينها بالشارع فيعبئونه ويُجَيِّشونه ليخوض المعركة التي أوهموه بها.وإن ما حصل في هذه الموقعة من هستيرية، لا يعبر  بالضرورة عن رأي الشارع المصري، إنما يعبر عن توجه فئة معلومة وهي المنتمية إلى الحزب الحاكم، وبديهي أن هذا الحزب لا يعكس إرادة الشعب المصري؛ وسوابقُه في التزوير وممارسة البلطجة مع المعارضة معلومةٌ  لكل بصير.
- ضرورة التمييز بين النخبة الحقيقية وبين من أشعلوا هذه النار التي بدأت بأكل الدار قبل الجار:
ولنفس السبب يتحتم هذا التمييز. أي أن الذين تزعموا هذه المعركة لا يمثلون نخبة مصر الحقيقية سواء من الفنانين أو الصحفيين أو العلماء والمفكرين. هؤلاء منهم من عبر عن استنكاره لهذه الحملة الشرسة على الجزائر ومنهم من لم يعبر بعد عن رفضه واستنكاره لأن صوت المعركة يعلو على كل صوت، لكن ظني أنهم سيعبرون عن موقفهم حين يتأكدون أن الوقت قد حان؛ وينبغي أن لا نلومهم لأنهم تأخروا. وأرى أن هذه الموقعة هي السانحة التي ينبغي على نخبة مصر الحقيقية أن تستغلها للتحرك من أجل مصر التي أذلها هذا النظام وعزلها عربيا وإسلاميا لصالح العدو الإسرائيلي الذي أصبحت علاقته به أوثق من علاقته بالعرب والمسلمين. وهذه "غزة" فلسطين والشعب الفلسطيني فيها عانت وما زالت تعاني من الحصار المفروض عليه من النظام المصري قبل  حرب السنة الماضية وخلالها، ولم يَكْتَفِ بهذا بل ها هو يُحْكِمُ حِصَارَهُ بجدار فولاذي فوق الأرض وتحت الأرض. ونقرأ من هذا كما صرح "خالد مشعل" رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أنه تمهيد لعدوان جديد على غزة. إن هذا النظام الذي دخل في تحالف مع عدو العرب والمسلمين عامة والفلسطينيين، ضد العرب والمسلمين عامة والفلسطينيين خاصة، لا يجدر بنخبة مصر أن تسكت عليه بل من واجبها أن تتحرك لتقويمه أو التخلص منه.
- ضرورة التمييز بين العلاقات التاريخية والقومية والأخوية وبين التوترات العابرة:
ذلك أن هذه العلاقة استراتيجية وليست ظرفية وهي من الثوابت لا من المتغيرات. والتغافل عن هذه الحقيقة خطيئة كبرى؛ ومما قاله في هذا السياق الأستاذ فهمي هويدي في مقاله السالف الذكر: "الخطيئة الثانية أن التنافس في ظل هذه المبالغة ألغى الذاكرة المتبادلة واختزل مصر في منتخب كرة القدم واللون الأحمر، كما اختزل الجزائر في فريقها الكروي واللون الأخضر، وهذا الاختزال المخل هبط بمستوى الإدراك، كما أنه صغّر كثيرا من البلدين وهوّن من شأنهما، مما أوقعنا في مصيدة التفاهة."
وأحب في نهاية مقالي هذا أن أُنبِّه إلى أن موقفي من النظام المصري في هذه الموقعة لا يستلزم بالضرورة التصفيق للنظام الجزائري. فالأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج أنظمة فاسدةٌ فسادَ المنظومة الدولية، يصدق فيها قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون"، والاختلاف بينها فقط في درجةِ الفساد، مستحكما أو أقلَّ استحكاما، ونوعِهِ، سياسيا أو ماليا أو اجتماعيا أو أخلاقيا ... ومحلِّهِ، موجها للشعب المقهور في صورة استبداد أو للشعوب المستضعفة أو القابلة للاستعمار في صورة استعمار أو استحمار. ولكل نظام منها خططه في اختلاق وإدارة المعارك الدونكيشوطية بما يتناسب مع أهدافه وغاياته. فلئن وظف النظام المصري دونكيشوطه في هذه الموقعة لتمرير مشروع التوريث فإن للنظام الجزائري كذلك دونكيشوطه الذي وظفه مرات وسيوظفه عند الحاجة لتبديد جهود النخبة المزعجة وتلهيتها بمشاكل وهمية عن المشاغل والمشاكل الحقيقية مثلما فعل في هذه السنوات مع المنظومة التربوية حيث أرهق المعلمين والأساتذة والتلاميذ ببرامج مفروضة بقرارات فوقية متحديا بذلك القواعد المنهجية والبيداغوغية  التي تقضي بأن يكون المربي والأستاذ والخبير في التربية هم من يقترحون مشاريع الإصلاح.
كما لقوى الاستكبار العالمي دونكيشوطها، وهو في وضعنا الحالي من العرب والمسلمين حيث توظفهم في فتح جبهات هامشية بالتحريش فيما بينهم، لتلهيتهم عن خططها في غزوهم وأحيانا ليخوضوا الحروب بالنيابة عنها. ومنافذها لهذا الغرض عديدة منها الطائفية، مسلم/مسيحي/درزي، سني/شيعي، ومنها العرقية، عربي/بربري، عربي/كردي، عربي/زنجي ...
* * *

علاج مرض الدونكيشوطية
إنه لا سبيل إلى معالجة مرض الدونكيشوطية إلا بتحرر النخبة المثقفة في البلد من ولاءاتها الحزبية الضيقة وتتجرد نهائيا من خصال الطمع في المال أو المنصب أو الجاه؛ لأنها صاحبة رسالة في نشر الوعي بالقيم الحقيقية للوطنية والقومية، لا القيم الزائفة التي ذهب ضحيتها "دون كيشوط دي لامانش" أو "دون كيشوط دي ليجيبت". ولن تكون جديرة بوصفها نخبة وزعمها صاحبة رسالة إذا تركت للحثالة المجال للاستفراد بالشارع لتوظفه في أغراضها الخسيسة كما فعلت مع الغوغاء في مصر الكنانة.


الاثنين، يونيو 15، 2009

البكالوريا الجزائرية في خطر                    كتابة عبد الوهاب بوزحزح

 

هذا الامتحان الذي له سمعة عالمية ، هو اليوم مهدد بالخطر في الجزائر ، وذلك بفعل السياسة التي تتبعها وزارة التربية الوطنية ، متسترة في ذلك وراء الإصلاحات التربوية.

ولا أعني بالخطر الذي يتهدده ، زوالَ هذا الامتحان من قائمة الامتحانات الوطنية ، أو تجريدَ شهادة البكالوريا من قيمتها الرسمية ، وتَحَوُّلهُا إلى مجرد شهادة شرفية ، إنما أعني به خَطَرَ الغِشِّ والتَّزْويرِ من صانعي هذا الخطر وهما المترشح للبكالوريا ، والوزارة المنظمة للامتحان.

أما المترشح فلا لوم عليه ، لأن سَعْيَه للحصول على النجاح في هذا الامتحان مشروعٌ مبدئيا ؛ فإذا لمس تشجيعا على الغش من الوزارة ، وإن بصورة ضمنية ، أو بلامبالاتها ، فلا نتوقع منه مقاومةَ هذا الإغراء الذي يفتح له أبواب الجامعة مجَّاناً ؛ إنما النكير على الوزارة المُؤْتَمَنَةِ على التربية والتعليم ، وعلى الأجيال التي ستتخرج وقد تَرَبَّتْ على الغِشِّ والتزوير ، والتي سَتُوكَلُ إليها وظائف ومهام في الدولة والمجتمع.

ولست مبالغا حينما أقول إنه في خطر. لأن المؤشِّرات التي سأعتمد عليها ليست من وسوسة الهواجس والمخاوف ، إنما هي من معايشة هذا الحدث على مدى ثلاث وعشرين سنة لم أتخلف فيها ولو سنة واحدة ، عن الحراسة في هذا الامتحان ولم أتخلف ولو سنة واحدة عن المشاركة في التصحيح فيه. وإذن سأعتمد على الحقائق التي عشتها بمعية زملاء المهنة مع هذا الامتحان. وسأعتمد على المقارنة بين وضع البكالوريا في الماضي ووضعها في الحاضر فكيف كانت البكالوريا وكيف أصبحت ؟

سأحاول الإجابة عن هذين السؤالين من خلال المحطات الرئيسية له وهي: ما قبل الامتحان وأثناء الامتحان وأثناء التصحيح وعند المداولات.

 

à       أولا: مرحلة ما قبل الامتحان. هي مرحلة التحضير لهذا الموعد الهام بالنسبة للطالب المقبل عليه. إن الحلم بالنجاح فيه لهو حلم جميل لا يمكن وصف المتعة التي يستشعرها الحالم. غير أن هذا الحُلْمَ لم يكن مباحا للجميع. فقد كان ممنوعا على الكَسُولِ وعلى محدود العلم والفهم أن يحلم به ، مُجَرَّدَ حُلْمٍ في المنام ؛ فقد كان جيل الرواد على قدر من الإيمان بقدسية هذا الامتحان بحيث يمنعه حياؤه من نفسه أن يحلم ، مجرد حلم في المنام ، بالنجاح في البكالوريا ، إذا لم يتوفر على قدر من الفهم والعلم أولا وإذا لم يجتهد ثانيا ؛ لذلك كُنْتَ تَرى طلبة السنة النهائية ، حسب التسمية القديمة ، أو السنة الثالثة ثانوي حسب التسمية الجديدة ، مُنْكَبِّين على التحضير الجاد. يتابعون دروسهم في المدرسة مع الأستاذ بكامل انتباههم ، ويراجعون دروسهم خارج المدرسة ، ويطلعون ويُنَوِّعون من مراجعهم ، ويُحَضِّرون للامتحان في كل مكان ، في البيت ، في المكتبات العمومية إن وُجِدت ، وحتى في المقاهي ؛ وقد كانت بعض المقاهي مشهورة ومعروفة بكونها مجتمع الطلبة المقبلين على امتحان البكالوريا. وهذه الحالة عشتها مع أبناء جيلي ، جيل السبعينيات. ولا زلت أذكر حادثة تبدو هينة لكن كان لها أثر كبير في حياتي ، وهي أنني كنت مرة بمعية بعض زملائي في مكتبة عمومية نحضر للامتحان ، وبدا لي أن إمكانياتي لا تسمح لي بالنجاح ، فقلت لزميل لي "أظن أنه لا داعي لأن أذهب للامتحان لأن تحضيري غير كاف". فقال لي: وماذا تخسر لو ذهبت للامتحان ؟ فإن نَجَحْتَ فَبِهَا وإلا فأنت لم تخسر شيئا". فكان لهذا القول تأثير في نفسي وقلت صدقت ، وذهبت للامتحان ونجحت والحمد لله.

هذه هي حال المقبلين على امتحان البكالوريا فيما مضى ، لا يطمع أحد في النجاح إذا لم يجتهد ، أما اليوم ، وقد طغى الجهل على العلم ، والكسل على الجد ، والغفلة على النباهة ، أصبح هذا الحُلْمُ مباحا للجميع ، فالكل يطمع في النجاح ، رغم أن القليل القليل من يجتهد منذ بداية السنة ، والكثير الكثير لا يتنبه إلا بعد انقضاء شهر أو أكثر من الفصل الأخير فيشرع في التحضير العشوائي والمتسرع ، والبقية البقية تتمادى في غفلتها إلى يوم الامتحان. وإن تعجب عجبا طمع الجميع في النجاح. أما المًُجِدُّ ، لأنه صاحب هِمَّةٍ ، فمن حقه أن يحلم به لأنه سيعتمد على مجهوده الشخصي. أما الذي تنبه في منتصف الفصل الأخير من السنة ، لأن تحضيره المتسرع لا يكفيه ، والذي يتمادى في غفلته ، فكلاهما يطمع في غيره أن يقدم له المساعدة أثناء الامتحان أو يفكر في الغش. نعم الغش. وعلى ذكر كلمة الغش ننتقل إلى المحطة التالية وهي يوم الامتحان. فكيف كان وكيف صار؟

 

à                ثانيا: يوم الامتحان.

كان الالتزام والانضباط في امتحان زمان شيئا مقدّسا. فكان التفكير في إمكانية الاستعانة بالغير في الإجابة أو التفكير في الغش ، أمر لا يخطر على بال المترشح ولا على بال الأستاذ الحارس. وقد كان للأستاذ الحارس هيبته حتى وهو يلاطف المُمْتَحَنين. وقد كان الجو الذي يسود قاعة الامتحان مهيبا ؛ فالالتفاتة البريئة من المترشح يحسب لها صاحبها حسابها ، ومن باب أولى الكلام مع الجار الذي أمامه أو خلفه أو عن يمينه أو عن شماله. فكان الحارس في غاية الراحة والطمأنينة ، وهو يؤدي مهمته. أما اليوم فقد أصبح المترشح يذهب إلى الامتحان بقليل من القلق والاضطراب ، الذي يصاحب المُمْتَحَنَ عادة ، وبكثير من الأمل والطمع لأنه يعلم بأن إمكانية الغش متاحة. أما الأستاذ الحارس فيذهب إلى الحراسة بأعصاب متوترة وبنفسية قَلِقَةٍ ، ويبقى هذا التوتر والقلق مصاحبين له طيلة فترة الامتحان. وهذا واقع معيش تشهد عليه يوميات الأساتذة ؛ وقد عشتها بنفسي ، ولقد تعرضت يوما  للمراودة ، بمجرد دخولي قاعة الامتحان ، حيث طلب مني المترشحون أن لا أتشدد معهم في الحراسة ، وقد سمعت من بعض الأساتذة قصصا يهدد فيها المترشحون الأساتذةَ الحراسَ، ويحكي آخر أن أحد الممتحنين أخذ ورقة زميله على مرأى الحارس وأخذ ينقل منها بكل جرأة ، بلا خوف أو وجل، وأقصى ما جرؤ الأستاذ الحارس على فعله أنه انتظره يكمل عمله وحينما دفع ورقة الإجابة مزقها ثم أمره بإعادة عمله ، واكتفى بهذا ولم يتخذ الإجراء القانوني الواجب وهو التبليغ عنه وكتابة تقرير بالغش ، وذلك خوفا على نفسه من الانتقام ، وحُقَّ له أن يخاف على نفسه لأن الأستاذ تُرِكَ وحده في ساحة الجهاد التربوي.

هذا هو الجو الذي يحرس فيه الأستاذ في امتحان بكالوريا اليوم. فإذا انتهى من الحراسة تنفس الصعداء وقال الآن أنهيت سنتي الدراسية وبإمكاني أن أخلد إلى قليل من الراحة قبل أن أعود إلى جو القلق والعصبية. وكأن العطلة أصبحت أشبه باستراحة محارب قبل أن يستأنف معركته.

غير أن هذا الأمر لا يقلق الوزارة ، إنما يُقْلِقُها أن تكون نسبة النجاح متدنية ، لذلك فهي تشجع ضمنيا اسْتِئْسَادَ التلاميذ والمترشحين على أساتذتهم. بل إنها أصبحت تبتكر أساليب شتى تضمن بها رفع نسبة النجاح. ومن هذه الأساليب طريقة طرح الأسئلة. فقد جرت عادتُها منذ سنوات على أن تستعمل أسلوبين متناقضين في طرح الأسئلة لكنهما يؤديان الغرض الذي ترمي إليه الوزارة.

الأسلوب الأول: هو أسلوب التبسيط. ذلك أن بعض الأسئلة تأتي في غاية السهولة حتى لكأنها ليست أسئلة بكالوريا ، إنما أسئلة متوسط أو ابتدائي.

الأسلوب الثاني: هو أسلوب الغموض والتعقيد أو الخطأ في صياغة الأسئلة.

إن هذين الأمرين يبدوان في الظاهر كخطأ غير مقصود ، أو مجرد هفوات ؛ لكن النظرة المتأنية تقول إنه أمر مقصود لغرض محدد ترمي الوزارة إلى تحقيقه بهذه الطريقة.

إن افتراض البراءة في هذين العيبين ، مُسْتَبْعَدٌ لعدة أسباب. منها أن مثل هذه العيوب غير مسموح بها في مثل هذه المواعيد الهامة. ويُفتْرَض أن لا يُمْنَحَ فيها هامش للخطأ ، ولئن منح هامش للخطأ هنا فيُفْتَرَض أن لا يتعدى طريقة تسيير الامتحان كأن يكون هناك نقائص في التنظيم وما يشبهه ولا ينبغي أن  يشمل الأسئلة بأي حال من الأحوال. ذلك أن للديوان الوطني للامتحانات والمسابقات وكذا الوزارة ، كامل الوقت والإمكانيات لتفادي مثل هذه الأخطاء. والدليل على ذلك أنها لم تكن موجودة قبل ما يُسَمَّى بالإصلاحات التربوية. ومنها أنها أخطاء تتكرر كل سنة وفي كل المواد تقريبا. والتكرار قرينة على أن الأمر يسير وفق سياسة ثابتة ومنظمة.

وتفسير الإصرار على هذه الأخطاء المُتَعَمَّدَةِ ، في نظري ، هو أنه وسيلة من وسائل التزوير الذكي لنتائج امتحان البكالوريا.

ذلك أن الأسئلة السهلة جدا ، تسمح لأكبر عدد ممكن من المترشحين بالحصول على بعض النقاط المجانية. كما أن الأسئلة الغامضة والمعقدة أو الخاطئة ، تعطي للوزارة ذريعة كي تمنح من عندها نقاطا إضافية للمترشحين ، وذلك بحجة التعويض عن هذا الخطأ. وبعملية حسابية بسيطة يمكن أن نضمن نجاح من يفترض فيه الحصول على معدل ثمانية من عشرين (08/20) أو تسعة من عشرين (09/20).

ففي مادة الرياضيات مثلا ، وقد حصلت فيها أخطاء ، يمنح للمترشح مجانا علامتان (02).

وفي مادة الفيزياء تُمنح له نقطتان أخريان (02).

وفي مادة الإنجليزية نقطتان (02).

فهذه ست نقاط مضمونة للمترشح صَدَقَةَ من عندِ الوزارة ، وهذا بالنسبة للأسئلة المُشْكَلَةِ ، يضاف إليها نقطتان أو ربما ثلاث نقاط عن كل مادة بالنسبة للأسئلة السهلة والبسيطة ، وبهذا تضمن الوزارة للمترشح نقطتين من المعدل العام ، ويبقى عليه أن يجتهد من أجل الحصول على معدل (08/20 ). هذه الثمانية من عشرين له أن يحصل عليها إما بمجهوده الخالص ، أو بجزء من مجهوده الخالص وجزء من شطارته.

وهكذا تضمن الوزارة نسبة عالية من النجاح ، ستستعملها ورقة تشهرها في وجه المشككين في خيار الإصلاحات التربوية ؛ فكلما اعْتُرِضَ عليها إلا وتقول إن الإصلاحات في الطريق الصحيح والدليل هو النتائج المحققة في امتحان البكالوريا ، وكذا امتحان شهادة التعليم المتوسط.

ويحضرني هنا قصة طريفة عن "أشعب" ، الشخصيةِ الأسطوريةِ في التراث العربي ، والمشهورِ بِتَطَفُّلِهِ على الموائد ، أن مجموعة من الصِّبْيَةِ تجمعوا حوله وأخذوا يضايقونه ويُعَيِّرونه ويلعبون به ، كما تفعل الصبية عادة بالمجانين ، فاهتدى إلى حيلة ليصرفهم بها عنه فأشار لهم إلى محل هناك وقال لهم ،كذبا، إنه يوزع الحلوى بالمجان. فأسرع الصبية إلى ذلك المحل ، وبينما هم متجمعين عند ذلك المحل طمعا في أن يعطيهم صاحبُه الحلوى التي وعدهم بها "أشعب" ، إذا بهذا الأخير يرجع إلى نفسه ويقول: لعل هذا المحل يوزع الحلوى حقا ، وعلى الفور ركض نحوه والتحق بالصبية الذين كذب عليهم ، طمعا في أن تكون كذبته صادقة. وما أشبه الوزارة ب "أشعب" هذا.

 

à                ثالثا أثناء التصحيح.

لقد خضعت عملية التصحيح لتطور إيجابي في البداية لكن سرعان ما بدأت تتدهور في اتجاه الغموض واستفراد الوزارة بقرار النجاح أو الرسوب.

لقد كانت في البداية تتم في مراكز محدودة العدد حيث نجد على المستوى الجهوي ثلاث أو أربع مراكز. وكانت العملية ، على ما فيها من صعوبة ومشقة ، ذات حلاوة وأهمية لا تُقدَّرُ ، لأنها كانت تشكل حدثا وطنيا. هي ذات أهمية خاصة ، لأنها كانت تسمح للأساتذة من عدة ولايات أن يلتقوا في مركز واحد ، ولا يخفى ما في هذا اللقاء من فائدة في تبادل الخبرات وتوحيد الرؤية حول قضايا التربية والتعليم ، وتآلف النفوس. وقد كان مركز الاهتمام خلالها هو الأستاذ والمترشح ، فهما صانعا الحدث الوطني في هذا الظرف. فالمترشح هو مركز الاهتمام عند أهله وأقاربه ، إذ يقلقون عليه ويترقبون نتيجة عمله فيفرحوا معه أو يواسونه. والأستاذ المصحح كذلك هو مركز اهتمام أهله ، وهو بعيد عنهم ، فيترقبون عودته بشوق. وكان الأولياء قبيل المداولات يوصون من يعرفون من المصححين أن ينظروا لهم نتائج أبنائهم ويبلغوهم بها بمجرد معرفتهم للنتيجة ، لأن وصول النتائج إلى مكان الإعلان عنها في المؤسسات ، كان يتأخر. وكان الأساتذة يتسابقون في تبشير الناجحين بنجاحهم. فيا له من مظهر للتآلف النفسي والتعاطف الذي يعكس حقيقة العلاقة التربية القائمة على رابطة روحية أساسا.

وازدادت مراكز التصحيح حتى كاد أن يكون لكل ولايتين مركز تصحيح ، غير أن جوهر سياسة التصحيح لم تتغير ، وخاصة الغرض من التصحيح وهو تقييم عمل المترشح وفقا لمعايير علمية تربوية ، وعلى ضوئها تقرر لجنة المداولات نجاحه أو رسوبه. ولم تكن الحسابات السياسية تدخل في مجريات التصحيح والمداولات ، ولئن كان للاعتبارات السياسية بعض التأثير في هذه المرحلة ، فإنه كان سابقا على مجريات الامتحان والتصحيح وذلك حينما يحدد ديوان الامتحانات والمسابقات سلم التنقيط والمعدل الذي يدخل به المترشح دائرة الإنقاذ. وحتى في هذه الحالة فإن ذلك كان يتم من خلال لجان تتكون من أساتذة ومفتشين يتمتعون بهامش كبير من الاستقلالية ، وعند هذا الحد يتوقف تدخل الوزارة في العملية.

هذه الصلاحية قد حافظت عليها الوزارة بعد هذه التغييرات ، وهذا أمر نتفهمه ، لأنه من الناحية العملية يتعذر على مراكز التصحيح أن تُعِدَّ بنفسها الإجابة النموذجية وسلم التنقيط ومعايير النجاح ، لأن كل هذه الأمور يجب أن تكون موحدة وطنيا ، وهذا لا يتحقق إلا من خلال هيئة وطنية واحدة ، والديوان الوطني للامتحانات والمسابقات هو الهيئة المخولة لذلك.

لذلك ظل هذا المنفذ الذي تتدخل من خلاله الوزارة ، قائما ، فكانت الإجابة النموذجية جاهزة ، وكذلك سلم التنقيط ، ومعايير النجاح في المداولات ، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات. ففيما الإجابة النموذجية ينبغي التمييز بين المواد العلمية والمواد الأدبية والإنسانية. فالمواد العلمية لا اعتراض فيها لأن مجال الاختلاف فيها محدود ، أما المواد الأدبية والإنسانية مثل الأدب العربي والفلسفة والاجتماعيات فمجال الاختلاف فيها ممدود ، وهذا ما كان يستوجب النقاش والجدال بين الأساتذة قبل الشروع في التصحيح ، وكان الأمر يأخذ في العادة اليوم الأول ، وأحيانا اليوم الأول وصبيحة اليوم الثاني. كل هذا لم يكن بغرض وضع إجابة نموذجية بديلة ، إنما بغرض التقريب بين وجهات النظر في قراءة الإجابة النموذجية وتطبيقها على الإجابات المحتملة للمترشحين ، والغاية من كل هذا هي ضمان إنصاف المترشح. أما بالنسبة لسلم التنقيط فإن الاعتراض فيه على كيفية توزيع النقاط على جزئيات الإجابة. ذلك أنه يمكن أن يُمْنَحَ لعنصر أساسي في الإجابة نصف علامة (0.5) بينما يُمْنَحَ لعنصر ضئيل الأهمية أو ثانوي علامتان (02) ، فيكون التوزيع حينئذ غير منطقي.

 

رابعا: المداولات.

كان الأستاذ هو صاحب القرار النهائي والأخير. ذلك أن الوزارة ، من خلال الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات ، كانت تحدد المعدل الذي يسمح للمترشح بالدخول في دائرة الإنقاذ ، وطريقة احتساب المعدل. أما قرار النجاح أو الرسوب فإن لجنة المداولات هي التي تقرر. وقد كانت اللجنة تتكون من الأساتذة الذين صححوا اللجنة التي سيتداولون فيها. فكان كل عضو يجد أمامه ورقةَ النقاط التي كتبها بخط يده. وكان معدل كل مترشح يُحْسب بكل شفافية بطريقة تسمح لكل أعضاء اللجنة بالمشاركة فيه. فكان رئيس اللجنة يطلب من كل أستاذ أن يعطيه العلامة التي تحصل عليها المترشح في مادته بعد أن يضربها في المعامل ، ثم يجمع النقاط ثم يقسم على مجموع المعاملات والمعدل الحاصل هو لذي يقرر مصير المترشح. فإذا حصل على 10/20 فهو ناجح عن جدارة واستحقاق. وإذا حصل على علامة دون 10/20 ، هناك حالتان: حالة عدم كفاية العلامة للدخول في دائرة الإنقاذ ، فالمترشح في هذه الحالة راسب. وحالة حصوله على علامة يدخل بها في دائرة الإنقاذ ، هنا تُدرس حالته وفقا للمعيار المحدد للنجاح بالإنقاذ. وفي كلتا الحالتين هناك إمكانية لتعديل العلامة إذا كانت قريبة من المعدل أو من عتبة الإنقاذ ، وذلك بأن يبادر أستاذ أو اثنان بإضافة نقطة مثلا أو نصف نقطة فإذا أُضِيفَتْ للمجموع حصل على معدل 10/20 ، فينجح آليا أو يدخل في دائرة الإنقاذ فيخضع للدراسة ، وقد ينجح وقد لا ينجح. وكانت عتبة الإنقاذ متغيرة من سنة لأخرى حيث كانت تتراوح بين ثمانية من عشرين(08/20) وتسعة ونصف من عشرين (9.5/20). فإذا دخل في هذه الدائرة يمنح له عدة فرص للنجاح كأن يحتسب له معدل المواد الأساسية التي حصل عليها في البكالوريا ، أو معدل المواد الأساسية التي حصل عليها خلال السنة الدراسية .. ومهما يكن فقد كان مبدأ مساعدة المترشح على النجاح معمولا به لكن كان يطبق بطريقة مضبوطة بعيدا عن ضغوط الوزارة والحراسة ، علاوة على أن الجهد الذي يبذله المترشح طيلة السنة لم يكن مهملا ، فقد كان يُحتسب له دون أن يُحسب عليه ، وهذا الذي كان يشجع الطلبة على الاهتمام بالدراسة خلال السنة.

ولقد كانت المداولات شاقة ، إذ تبدأ على الساعة الثامنة صباحا وتستمر إلى ما بعد العصر ، وأحيانا تنتهي على السادسة وأحيانا الثامنة مساءا ، وهذا بالنسبة لِلَّجْنَةِ الواحدة ، وقد كان الأستاذ يداول في لجنتين أو أكثر مما يعني أنه يلبث في المداولات ليومين أو ثلاثة أيام. لكن في مقابل هذا الجهد كان الأستاذ هو صاحب القرار.

أما اليوم فلم يعد هو صاحب القرار ، لأنه لم يعد يقرر من ينجح ومن يرسب ، فقد استغنت عنه الوزارة بالآلة ، وذلك بعد إدخال الإعلام الآلي في مجريات التصحيح والمداولات. وهنا أخذت العملية مسارا مُتَدَرِّجا. ففي البداية كان الأستاذ يصحح اللجنة ويدفع ورقة النقاط إلى الأمانة التي تدخلها الجهاز الحاسب لتعالج بالإعلام الآلي. وقبل أن تُعتمد النقاط تطبعها وتعيدها للمصحح ليتأكد أنها مطابقة للنقاط التي أرسلها للأمانة وذلك بمقارنتها بالنقاط التي كتبها بخط يده. فإذا تأكد من ذلك يوقع على هذه النقاط ، وهذه النسخة الممضاة من المصحح هي التي يجدها أمامه عند المداولات. وواضح أن إدخال الإعلام الآلي في العملية قد سهل مهمة التصحيح والمداولات دون أن يُجَرَّدَ الأستاذُ من صلاحية اتخاذ القرار ، حيث صار بإمكانه أن يداول في اليوم الواحد في ست لجان أو أكثر ، لأنه يجد المعدلات جاهزة ويبقى عليه فقط أن يراقب صحتها وخاصة تلك الحالات التي تكون قريبة من المعدل دون أن ينجح صاحبها ، وقد أمكن للجنة أن تنقذ الكثير من الحالات وهي تلك التي تتراوح بين (9.99)، و، (9.95) حيث كانت تدرسها أو تحصيها ثم ترسلها إلى الأمانة ليتخذ رئيس المركز قرارا بشأنها.

لكن بعد إنشاء مراكز التجميع نُزِعَت من الأستاذ كل الصلاحيات واقتصرت مهمته على التصحيح ، فيسلم النقاط دون أن يتأكد حتى من صحتها ، فقد أُعْفِيَ من مقارنة النقاط التي كتبها بخط يده مع النقاط التي تدخل جهاز الحاسوب ، ولا ندري إن كانت النقاط التي أرسلها الأستاذ هي التي تُعْتَمَدُ في قرار النجاح أو الرسوب أم نقاط أخرى.

وقد بلغنا أن النتائج في هذه السنة ، 2009 ، سيعلن عنها من مركز واحد في العاصمة. وهكذا نلاحظ أن الوزارة تدرجت في مركزة قرار النجاح ، وفي إبعاد الأستاذ عنه. والسؤال المطروح هو ما الذي دعا الوزارة إلى اعتماد هذه الطريقة غير الشفافة في تحديد نتائج الامتحان. لقد نزعت من الأستاذ المصحح وظيفة المداولات وبالتالي لم يعد هو من يقرر النجاح والرسوب وفقا للمعايير التربوية ، وأصبح القرار بيدها وحدها تقرر من ينجح ومن يرسب ، لا حسب المعايير البيداغوجية والتربوية ، بل حسب الأغراض السياسية. فما أدرانا أن الوزارة حددت سلفا نسبة النجاح التي ترغب في تحقيقها ، وعلى ضوء هذه الرغبة تقوم بالتعديلات المطلوبة في النتائج التي تَرِدُ إليها من مراكز التصحيح بحيث ترفع من نسبة النجاح ثم تعلن أن نسبة النجاح في هذه السنة جاءت حسب توقعاتنا أو أكثر.

هذا التخوف قد يراه البعض مفتقرا إلى أدلة تؤكده ، وهذا اعتراض في محله ، مادامت العملية تتم في غموض. لكن مع ذلك يبقى افتراض تزوير نتائج امتحان البكالوريا قائما طالما أن القرار بيد الوزارة. والقرائن تشير إلى أن هذا الافتراض ليس بعيدا عن التحقق لأن السيد الوزير أصبح يتوقع نسبة النجاح ويخطط لرفعها لتصل إلى 70 % أو أكثر ، فما هي المعطيات التي اعتمد عليها معاليه لمعرفة هذه النسبة ؟ هل هي نتائج امتحانات الفصل الأول ؟ ربما لكن ربما كذلك هو مجرد تغطية على ما ينويه من تحديد نسبة النجاح التي يريدها ، حتى إذا قيل له من أين لك هذا ؟ أجاب إن نتائج امتحان الفصل الأول من السنة الدراسية هو المؤشر.

ألا أيها المتباكون على الديمقراطية المهددة بظاهرة التزوير في الانتخابات ، إن البكالوريا الجزائرية مهددة بالتزوير في النتائج بحيث سيصبح النجاح ليس نتيجة جهد الناجح إنما نتيجة قرار الوزير.

هل يمكن تدارك الخطر؟

نعم يمكن إذا توفرت الإرادة السياسية ، والتي أرى أنها تتجاوز السيد الوزير ، لأن من يُشْتَكَى منه لا يُشْتَكى إليه.

وإن المطلوب حسب رأيي هو:

o      أولا: تحرير قطاع التربية من الاستغلال السياسي بحيث لا يُسْتعمل كأداة للإقناع بصواب خيار ما.

o      ثانيا: اتخاذ مجموعة من الإجراءات البسيطة لكن الفعالة وعلى رأسها إعادة الهيبة والاحترام لصانع أفراح الناجحين في البكالوريا ألا وهو الأستاذ. وذلك:

- بإعادة النظر في طريقة التصحيح والمداولات بحيث يعاد له صلاحية اتخاذ قرار النجاح والرسوب حسب الطريقة القديمة في المداولات. أما الإعلام الآلي الذي تَذَرَّعَتْ به الوزارة للاستفراد بقرار النجاح ، إن هو إلا أداة تسهل عمل الأستاذ ولا تبرر للوزارة استغناءها عنه.

- إعفاء الأستاذ من كل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها غيره مثل الأعمال البيروقراطية ، وذلك حتى يتفرغ لمهمته الأساسية وهي التربية والتعليم.

وفيما يخص امتحان البكالوريا ، وكذا غيره من الامتحانات التي ينظمها الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات ، فأرى أنه ينبغي إعفاؤه من الحراسة أو إعطاؤه الخيار. إن رغب في الحراسة فله ذلك وإلا فلا إكراه عليه. ولدى الوزارة والحكومة بدائل عدة لملء الفراغ الذي يتركه هذا الإعفاء.

فلها أن توظف شباب الخدمة الوطنية ، أو المتخرجين الجدد من الجامعات قبل توظيفهم ، مثلما اعتادت أن توظفهم في بعض المناسبات كمناسبة الإحصاء السكاني الأخير ، ومناسبة الانتخابات الرئاسية الأخيرة حينما وظفتهم في تأطير المكاتب الانتخابية ، على أن يُجْرَى لهم دورة أو دورات لشرح كيفية العمل وأن يباشروا عملهم أثناء الامتحان تحت إشراف أساتذة من ذوي الخبرة ممن رغبوا في الحراسة.

لماذا هذا الإعفاء ؟

إنه للتخفيف على الأستاذ وللحفاظ على هيبته واحترامه الذي بلغ حَظُّهُ منهما الحَضِيضَ ، وذلك بفعل التحرشات التي أصبح يتعرض لها من قبل المُمْتَحَنين. وأخبار الصحف عنها تشهد عليه.

إن هذا الاحترام وهذه الهيبة شرط ضروري لنجاح الأستاذ في مهمته التربوية. ولا تستغربوا مني هذا المقترح أيها القراء من العامة أو الخاصة أو خاصة الخاصة ، فإن هذا الكائن الذي أخذتني الغيرة عليه يسمى "أستاذا" لا حارسا.

فاجعلوه أستاذا تضمنوا لأولادكم الفلاح والنجاح.