- عشت مع الفلسفة طالبا في الجامعة لمدة ثلاث سنوات وعشت معها لمدة ربع قرن تعلما وتعليما، ولطالما تساءلت وسئلت عن معنى الفلسفة فكنت أجيب تبعا للموقع والموقف - موقع الأستاذ مع الطلبة أثناء الدرس، فأقول قال فلان قديما وقال فلان حديثا وقول فلان مكمل أو مفصل لقول فلان أو أنه يعكس فلسفة عصره أو مصره أو طائفته ...
- أما الموقف المعبر عن الرأي الخاص بي فكنت أجيب سواء من موقع الأستاذ المقيد بالتزامات المربي الذي لا يستغل موقعه للترويج لآرائه الخاصة أو موقع المثقف المتحلل من هذا القيد، كنت أجيب بما سيأتي في نهاية كلامي هذا.
- ولقد اعتقدت في وقت ما أن السؤال "ما الفلسفة؟" قد تجاوزه الزمن لكني اكتشفت أنه سؤال مهما قيل أنه تقليدي إلاّ أنه ما زال مثيرا للفضول، وكلما ظن المرء أنه قد تقادم اكتشف أنه عصي على البِلَى، إنه سؤال متجدد باستمرار ... فوجدتني مدفوعا إلى أن يكون لي قول فيه وهو التعريف الذي وصلت إليه متخذا مفهوم العقل كمعيار في التعريف فأقول:
- "إن الفلسفة هي أن توظف عقلك وتبلغ به أقصى مداه لكن إذا تجاوزت هذا المدى فأنت واقع لا محالة إما في الترف أو الخرف".
- وهذا ما قد وقع فيه الكثير من منتحلي الفلسفة بالحق وبالباطل في القديم وفي الحديث فشغلوا بتوافه الأمور ومبتذلها ووصلوا إلى اللامعقول كأن يزعم بعضهم أن من مقتضى الحفاظ على حق المولود أن لا نحدد جنسه إن كان ذكرا أو أنثى إلى أن يبلغ سن الرشد القانوني فيحدد هو بنفسه جنسه فإذا كان خلق ذكرا ورضي بذكورته يعلن أنه يقبل أن يكون كما وُلِد وإذا لم يعجبه جنسه فله أن يغير خلقه.
- سقت هذا المثال لأوضح معنى الخرف باسم العقلانية ومشتقاتها.
- ولا يفهمن أحد من معنى المدى أن للعقل حدودا، إنما أقصد بالمدى الحد الذي ينتهي إليه نظرك. هذا الحد لك أن تقول فيه عما تراه عينك أو تسمعه أذنك أو تستدل عليه بالمنطق الاستنتاجي والاستقرائي، أما ما لم يبلغه نظرك فلا تقل فيه شيئا إلاّ إذا تقدمت أكثر حتى يتسع المدى ثم قل فيه بنفس المنطق.
- وحتى أقرب لك الفكرة أقول: افرض أنك مسافر، وأنك على مدى طول الطريق تُحَدِّث عما تراه أمامك، فتقول إني أرى الآن في الأفق البعيد جدا جبلا، فيقول لك رفيقك: ألا ترى ما في سفحه من جهة اليمين؟ إنها مزرعة فلان، فتقول له أنا لا أراها إنك تسخر مني لكن بعد لحظات تقول له آآآه معك حق لقد رأيتها الآن .. إنك أحَدُّ مِنِّي بصرا وأبْعَدُهُ.
- تواصل سيرك فترى أشياء أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية إلاّ إذا توقفت عن السير.
- هكذا أفهم حدود العقل. له مدى منظور هو الدائرة التي تقف في مركزها ويكون نصف قطرها هو الطول الذي يبلغه شعاع الرؤية.
- وتبقى هذه الدائرة قابلة للاتساع طالما تقدمت في سيرك، لكنك كلما توسعت دائرة معرفتك واكتشفت جديدا اكتشفت معه مقدار جهلك.
- وقديما قال سقراط - تواضعا منه - "إني لا أعرف إلاّ شيئا واحدا وهو أني لا أعرف شيئا".
كما قال الشاعر العباسي أبو نواس:
"قل لمن يدعي في العلم فلسفة * * * علمت
شيئا وغابت عنك أشياء"
وصدق الله إذ يقول "وما أوتيتم من العلم
إلاّ قليلا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق