- عشت مع الفلسفة طالبا في الجامعة لمدة ثلاث سنوات وعشت معها لمدة ربع قرن تعلما وتعليما، ولطالما تساءلت وسئلت عن معنى الفلسفة فكنت أجيب تبعا للموقع والموقف - موقع الأستاذ مع الطلبة أثناء الدرس، فأقول قال فلان قديما وقال فلان حديثا وقول فلان مكمل أو مفصل لقول فلان أو أنه يعكس فلسفة عصره أو مصره أو طائفته ...
- أما الموقف المعبر عن الرأي الخاص بي فكنت أجيب سواء من موقع الأستاذ المقيد بالتزامات المربي الذي لا يستغل موقعه للترويج لآرائه الخاصة أو موقع المثقف المتحلل من هذا القيد، كنت أجيب بما سيأتي في نهاية كلامي هذا.
- ولقد اعتقدت في وقت ما أن السؤال "ما الفلسفة؟" قد تجاوزه الزمن لكني اكتشفت أنه سؤال مهما قيل أنه تقليدي إلاّ أنه ما زال مثيرا للفضول، وكلما ظن المرء أنه قد تقادم اكتشف أنه عصي على البِلَى، إنه سؤال متجدد باستمرار ... فوجدتني مدفوعا إلى أن يكون لي قول فيه وهو التعريف الذي وصلت إليه متخذا مفهوم العقل كمعيار في التعريف فأقول:
- "إن الفلسفة هي أن توظف عقلك وتبلغ به أقصى مداه لكن إذا تجاوزت هذا المدى فأنت واقع لا محالة إما في الترف أو الخرف".
- وهذا ما قد وقع فيه الكثير من منتحلي الفلسفة بالحق وبالباطل في القديم وفي الحديث فشغلوا بتوافه الأمور ومبتذلها ووصلوا إلى اللامعقول كأن يزعم بعضهم أن من مقتضى الحفاظ على حق المولود أن لا نحدد جنسه إن كان ذكرا أو أنثى إلى أن يبلغ سن الرشد القانوني فيحدد هو بنفسه جنسه فإذا كان خلق ذكرا ورضي بذكورته يعلن أنه يقبل أن يكون كما وُلِد وإذا لم يعجبه جنسه فله أن يغير خلقه.
- سقت هذا المثال لأوضح معنى الخرف باسم العقلانية ومشتقاتها.
- ولا يفهمن أحد من معنى المدى أن للعقل حدودا، إنما أقصد بالمدى الحد الذي ينتهي إليه نظرك. هذا الحد لك أن تقول فيه عما تراه عينك أو تسمعه أذنك أو تستدل عليه بالمنطق الاستنتاجي والاستقرائي، أما ما لم يبلغه نظرك فلا تقل فيه شيئا إلاّ إذا تقدمت أكثر حتى يتسع المدى ثم قل فيه بنفس المنطق.
- وحتى أقرب لك الفكرة أقول: افرض أنك مسافر، وأنك على مدى طول الطريق تُحَدِّث عما تراه أمامك، فتقول إني أرى الآن في الأفق البعيد جدا جبلا، فيقول لك رفيقك: ألا ترى ما في سفحه من جهة اليمين؟ إنها مزرعة فلان، فتقول له أنا لا أراها إنك تسخر مني لكن بعد لحظات تقول له آآآه معك حق لقد رأيتها الآن .. إنك أحَدُّ مِنِّي بصرا وأبْعَدُهُ.
- تواصل سيرك فترى أشياء أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية إلاّ إذا توقفت عن السير.
- هكذا أفهم حدود العقل. له مدى منظور هو الدائرة التي تقف في مركزها ويكون نصف قطرها هو الطول الذي يبلغه شعاع الرؤية.
- وتبقى هذه الدائرة قابلة للاتساع طالما تقدمت في سيرك، لكنك كلما توسعت دائرة معرفتك واكتشفت جديدا اكتشفت معه مقدار جهلك.
- وقديما قال سقراط - تواضعا منه - "إني لا أعرف إلاّ شيئا واحدا وهو أني لا أعرف شيئا".
سبل الحكمة
"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"
الثلاثاء، سبتمبر 26، 2017
ما الفلسفة؟
الخميس، أبريل 10، 2014
الخميس، ديسمبر 24، 2009
الظاهرة الدونكيشوطية في المقابلة الجزائرية المصرية
الاثنين، يونيو 15، 2009
البكالوريا الجزائرية في خطر كتابة عبد الوهاب بوزحزح
هذا الامتحان الذي له سمعة عالمية ، هو اليوم مهدد بالخطر في الجزائر ، وذلك بفعل السياسة التي تتبعها وزارة التربية الوطنية ، متسترة في ذلك وراء الإصلاحات التربوية.
ولا أعني بالخطر الذي يتهدده ، زوالَ هذا الامتحان من قائمة الامتحانات الوطنية ، أو تجريدَ شهادة البكالوريا من قيمتها الرسمية ، وتَحَوُّلهُا إلى مجرد شهادة شرفية ، إنما أعني به خَطَرَ الغِشِّ والتَّزْويرِ من صانعي هذا الخطر وهما المترشح للبكالوريا ، والوزارة المنظمة للامتحان.
أما المترشح فلا لوم عليه ، لأن سَعْيَه للحصول على النجاح في هذا الامتحان مشروعٌ مبدئيا ؛ فإذا لمس تشجيعا على الغش من الوزارة ، وإن بصورة ضمنية ، أو بلامبالاتها ، فلا نتوقع منه مقاومةَ هذا الإغراء الذي يفتح له أبواب الجامعة مجَّاناً ؛ إنما النكير على الوزارة المُؤْتَمَنَةِ على التربية والتعليم ، وعلى الأجيال التي ستتخرج وقد تَرَبَّتْ على الغِشِّ والتزوير ، والتي سَتُوكَلُ إليها وظائف ومهام في الدولة والمجتمع.
ولست مبالغا حينما أقول إنه في خطر. لأن المؤشِّرات التي سأعتمد عليها ليست من وسوسة الهواجس والمخاوف ، إنما هي من معايشة هذا الحدث على مدى ثلاث وعشرين سنة لم أتخلف فيها ولو سنة واحدة ، عن الحراسة في هذا الامتحان ولم أتخلف ولو سنة واحدة عن المشاركة في التصحيح فيه. وإذن سأعتمد على الحقائق التي عشتها بمعية زملاء المهنة مع هذا الامتحان. وسأعتمد على المقارنة بين وضع البكالوريا في الماضي ووضعها في الحاضر فكيف كانت البكالوريا وكيف أصبحت ؟
سأحاول الإجابة عن هذين السؤالين من خلال المحطات الرئيسية له وهي: ما قبل الامتحان وأثناء الامتحان وأثناء التصحيح وعند المداولات.
à أولا: مرحلة ما قبل الامتحان. هي مرحلة التحضير لهذا الموعد الهام بالنسبة للطالب المقبل عليه. إن الحلم بالنجاح فيه لهو حلم جميل لا يمكن وصف المتعة التي يستشعرها الحالم. غير أن هذا الحُلْمَ لم يكن مباحا للجميع. فقد كان ممنوعا على الكَسُولِ وعلى محدود العلم والفهم أن يحلم به ، مُجَرَّدَ حُلْمٍ في المنام ؛ فقد كان جيل الرواد على قدر من الإيمان بقدسية هذا الامتحان بحيث يمنعه حياؤه من نفسه أن يحلم ، مجرد حلم في المنام ، بالنجاح في البكالوريا ، إذا لم يتوفر على قدر من الفهم والعلم أولا وإذا لم يجتهد ثانيا ؛ لذلك كُنْتَ تَرى طلبة السنة النهائية ، حسب التسمية القديمة ، أو السنة الثالثة ثانوي حسب التسمية الجديدة ، مُنْكَبِّين على التحضير الجاد. يتابعون دروسهم في المدرسة مع الأستاذ بكامل انتباههم ، ويراجعون دروسهم خارج المدرسة ، ويطلعون ويُنَوِّعون من مراجعهم ، ويُحَضِّرون للامتحان في كل مكان ، في البيت ، في المكتبات العمومية إن وُجِدت ، وحتى في المقاهي ؛ وقد كانت بعض المقاهي مشهورة ومعروفة بكونها مجتمع الطلبة المقبلين على امتحان البكالوريا. وهذه الحالة عشتها مع أبناء جيلي ، جيل السبعينيات. ولا زلت أذكر حادثة تبدو هينة لكن كان لها أثر كبير في حياتي ، وهي أنني كنت مرة بمعية بعض زملائي في مكتبة عمومية نحضر للامتحان ، وبدا لي أن إمكانياتي لا تسمح لي بالنجاح ، فقلت لزميل لي "أظن أنه لا داعي لأن أذهب للامتحان لأن تحضيري غير كاف". فقال لي: وماذا تخسر لو ذهبت للامتحان ؟ فإن نَجَحْتَ فَبِهَا وإلا فأنت لم تخسر شيئا". فكان لهذا القول تأثير في نفسي وقلت صدقت ، وذهبت للامتحان ونجحت والحمد لله.
هذه هي حال المقبلين على امتحان البكالوريا فيما مضى ، لا يطمع أحد في النجاح إذا لم يجتهد ، أما اليوم ، وقد طغى الجهل على العلم ، والكسل على الجد ، والغفلة على النباهة ، أصبح هذا الحُلْمُ مباحا للجميع ، فالكل يطمع في النجاح ، رغم أن القليل القليل من يجتهد منذ بداية السنة ، والكثير الكثير لا يتنبه إلا بعد انقضاء شهر أو أكثر من الفصل الأخير فيشرع في التحضير العشوائي والمتسرع ، والبقية البقية تتمادى في غفلتها إلى يوم الامتحان. وإن تعجب عجبا طمع الجميع في النجاح. أما المًُجِدُّ ، لأنه صاحب هِمَّةٍ ، فمن حقه أن يحلم به لأنه سيعتمد على مجهوده الشخصي. أما الذي تنبه في منتصف الفصل الأخير من السنة ، لأن تحضيره المتسرع لا يكفيه ، والذي يتمادى في غفلته ، فكلاهما يطمع في غيره أن يقدم له المساعدة أثناء الامتحان أو يفكر في الغش. نعم الغش. وعلى ذكر كلمة الغش ننتقل إلى المحطة التالية وهي يوم الامتحان. فكيف كان وكيف صار؟
à ثانيا: يوم الامتحان.
كان الالتزام والانضباط في امتحان زمان شيئا مقدّسا. فكان التفكير في إمكانية الاستعانة بالغير في الإجابة أو التفكير في الغش ، أمر لا يخطر على بال المترشح ولا على بال الأستاذ الحارس. وقد كان للأستاذ الحارس هيبته حتى وهو يلاطف المُمْتَحَنين. وقد كان الجو الذي يسود قاعة الامتحان مهيبا ؛ فالالتفاتة البريئة من المترشح يحسب لها صاحبها حسابها ، ومن باب أولى الكلام مع الجار الذي أمامه أو خلفه أو عن يمينه أو عن شماله. فكان الحارس في غاية الراحة والطمأنينة ، وهو يؤدي مهمته. أما اليوم فقد أصبح المترشح يذهب إلى الامتحان بقليل من القلق والاضطراب ، الذي يصاحب المُمْتَحَنَ عادة ، وبكثير من الأمل والطمع لأنه يعلم بأن إمكانية الغش متاحة. أما الأستاذ الحارس فيذهب إلى الحراسة بأعصاب متوترة وبنفسية قَلِقَةٍ ، ويبقى هذا التوتر والقلق مصاحبين له طيلة فترة الامتحان. وهذا واقع معيش تشهد عليه يوميات الأساتذة ؛ وقد عشتها بنفسي ، ولقد تعرضت يوما للمراودة ، بمجرد دخولي قاعة الامتحان ، حيث طلب مني المترشحون أن لا أتشدد معهم في الحراسة ، وقد سمعت من بعض الأساتذة قصصا يهدد فيها المترشحون الأساتذةَ الحراسَ، ويحكي آخر أن أحد الممتحنين أخذ ورقة زميله على مرأى الحارس وأخذ ينقل منها بكل جرأة ، بلا خوف أو وجل، وأقصى ما جرؤ الأستاذ الحارس على فعله أنه انتظره يكمل عمله وحينما دفع ورقة الإجابة مزقها ثم أمره بإعادة عمله ، واكتفى بهذا ولم يتخذ الإجراء القانوني الواجب وهو التبليغ عنه وكتابة تقرير بالغش ، وذلك خوفا على نفسه من الانتقام ، وحُقَّ له أن يخاف على نفسه لأن الأستاذ تُرِكَ وحده في ساحة الجهاد التربوي.
هذا هو الجو الذي يحرس فيه الأستاذ في امتحان بكالوريا اليوم. فإذا انتهى من الحراسة تنفس الصعداء وقال الآن أنهيت سنتي الدراسية وبإمكاني أن أخلد إلى قليل من الراحة قبل أن أعود إلى جو القلق والعصبية. وكأن العطلة أصبحت أشبه باستراحة محارب قبل أن يستأنف معركته.
غير أن هذا الأمر لا يقلق الوزارة ، إنما يُقْلِقُها أن تكون نسبة النجاح متدنية ، لذلك فهي تشجع ضمنيا اسْتِئْسَادَ التلاميذ والمترشحين على أساتذتهم. بل إنها أصبحت تبتكر أساليب شتى تضمن بها رفع نسبة النجاح. ومن هذه الأساليب طريقة طرح الأسئلة. فقد جرت عادتُها منذ سنوات على أن تستعمل أسلوبين متناقضين في طرح الأسئلة لكنهما يؤديان الغرض الذي ترمي إليه الوزارة.
الأسلوب الأول: هو أسلوب التبسيط. ذلك أن بعض الأسئلة تأتي في غاية السهولة حتى لكأنها ليست أسئلة بكالوريا ، إنما أسئلة متوسط أو ابتدائي.
الأسلوب الثاني: هو أسلوب الغموض والتعقيد أو الخطأ في صياغة الأسئلة.
إن هذين الأمرين يبدوان في الظاهر كخطأ غير مقصود ، أو مجرد هفوات ؛ لكن النظرة المتأنية تقول إنه أمر مقصود لغرض محدد ترمي الوزارة إلى تحقيقه بهذه الطريقة.
إن افتراض البراءة في هذين العيبين ، مُسْتَبْعَدٌ لعدة أسباب. منها أن مثل هذه العيوب غير مسموح بها في مثل هذه المواعيد الهامة. ويُفتْرَض أن لا يُمْنَحَ فيها هامش للخطأ ، ولئن منح هامش للخطأ هنا فيُفْتَرَض أن لا يتعدى طريقة تسيير الامتحان كأن يكون هناك نقائص في التنظيم وما يشبهه ولا ينبغي أن يشمل الأسئلة بأي حال من الأحوال. ذلك أن للديوان الوطني للامتحانات والمسابقات وكذا الوزارة ، كامل الوقت والإمكانيات لتفادي مثل هذه الأخطاء. والدليل على ذلك أنها لم تكن موجودة قبل ما يُسَمَّى بالإصلاحات التربوية. ومنها أنها أخطاء تتكرر كل سنة وفي كل المواد تقريبا. والتكرار قرينة على أن الأمر يسير وفق سياسة ثابتة ومنظمة.
وتفسير الإصرار على هذه الأخطاء المُتَعَمَّدَةِ ، في نظري ، هو أنه وسيلة من وسائل التزوير الذكي لنتائج امتحان البكالوريا.
ذلك أن الأسئلة السهلة جدا ، تسمح لأكبر عدد ممكن من المترشحين بالحصول على بعض النقاط المجانية. كما أن الأسئلة الغامضة والمعقدة أو الخاطئة ، تعطي للوزارة ذريعة كي تمنح من عندها نقاطا إضافية للمترشحين ، وذلك بحجة التعويض عن هذا الخطأ. وبعملية حسابية بسيطة يمكن أن نضمن نجاح من يفترض فيه الحصول على معدل ثمانية من عشرين (08/20) أو تسعة من عشرين (09/20).
ففي مادة الرياضيات مثلا ، وقد حصلت فيها أخطاء ، يمنح للمترشح مجانا علامتان (02).
وفي مادة الفيزياء تُمنح له نقطتان أخريان (02).
وفي مادة الإنجليزية نقطتان (02).
فهذه ست نقاط مضمونة للمترشح صَدَقَةَ من عندِ الوزارة ، وهذا بالنسبة للأسئلة المُشْكَلَةِ ، يضاف إليها نقطتان أو ربما ثلاث نقاط عن كل مادة بالنسبة للأسئلة السهلة والبسيطة ، وبهذا تضمن الوزارة للمترشح نقطتين من المعدل العام ، ويبقى عليه أن يجتهد من أجل الحصول على معدل (08/20 ). هذه الثمانية من عشرين له أن يحصل عليها إما بمجهوده الخالص ، أو بجزء من مجهوده الخالص وجزء من شطارته.
وهكذا تضمن الوزارة نسبة عالية من النجاح ، ستستعملها ورقة تشهرها في وجه المشككين في خيار الإصلاحات التربوية ؛ فكلما اعْتُرِضَ عليها إلا وتقول إن الإصلاحات في الطريق الصحيح والدليل هو النتائج المحققة في امتحان البكالوريا ، وكذا امتحان شهادة التعليم المتوسط.
ويحضرني هنا قصة طريفة عن "أشعب" ، الشخصيةِ الأسطوريةِ في التراث العربي ، والمشهورِ بِتَطَفُّلِهِ على الموائد ، أن مجموعة من الصِّبْيَةِ تجمعوا حوله وأخذوا يضايقونه ويُعَيِّرونه ويلعبون به ، كما تفعل الصبية عادة بالمجانين ، فاهتدى إلى حيلة ليصرفهم بها عنه فأشار لهم إلى محل هناك وقال لهم ،كذبا، إنه يوزع الحلوى بالمجان. فأسرع الصبية إلى ذلك المحل ، وبينما هم متجمعين عند ذلك المحل طمعا في أن يعطيهم صاحبُه الحلوى التي وعدهم بها "أشعب" ، إذا بهذا الأخير يرجع إلى نفسه ويقول: لعل هذا المحل يوزع الحلوى حقا ، وعلى الفور ركض نحوه والتحق بالصبية الذين كذب عليهم ، طمعا في أن تكون كذبته صادقة. وما أشبه الوزارة ب "أشعب" هذا.
à ثالثا أثناء التصحيح.
لقد خضعت عملية التصحيح لتطور إيجابي في البداية لكن سرعان ما بدأت تتدهور في اتجاه الغموض واستفراد الوزارة بقرار النجاح أو الرسوب.
لقد كانت في البداية تتم في مراكز محدودة العدد حيث نجد على المستوى الجهوي ثلاث أو أربع مراكز. وكانت العملية ، على ما فيها من صعوبة ومشقة ، ذات حلاوة وأهمية لا تُقدَّرُ ، لأنها كانت تشكل حدثا وطنيا. هي ذات أهمية خاصة ، لأنها كانت تسمح للأساتذة من عدة ولايات أن يلتقوا في مركز واحد ، ولا يخفى ما في هذا اللقاء من فائدة في تبادل الخبرات وتوحيد الرؤية حول قضايا التربية والتعليم ، وتآلف النفوس. وقد كان مركز الاهتمام خلالها هو الأستاذ والمترشح ، فهما صانعا الحدث الوطني في هذا الظرف. فالمترشح هو مركز الاهتمام عند أهله وأقاربه ، إذ يقلقون عليه ويترقبون نتيجة عمله فيفرحوا معه أو يواسونه. والأستاذ المصحح كذلك هو مركز اهتمام أهله ، وهو بعيد عنهم ، فيترقبون عودته بشوق. وكان الأولياء قبيل المداولات يوصون من يعرفون من المصححين أن ينظروا لهم نتائج أبنائهم ويبلغوهم بها بمجرد معرفتهم للنتيجة ، لأن وصول النتائج إلى مكان الإعلان عنها في المؤسسات ، كان يتأخر. وكان الأساتذة يتسابقون في تبشير الناجحين بنجاحهم. فيا له من مظهر للتآلف النفسي والتعاطف الذي يعكس حقيقة العلاقة التربية القائمة على رابطة روحية أساسا.
وازدادت مراكز التصحيح حتى كاد أن يكون لكل ولايتين مركز تصحيح ، غير أن جوهر سياسة التصحيح لم تتغير ، وخاصة الغرض من التصحيح وهو تقييم عمل المترشح وفقا لمعايير علمية تربوية ، وعلى ضوئها تقرر لجنة المداولات نجاحه أو رسوبه. ولم تكن الحسابات السياسية تدخل في مجريات التصحيح والمداولات ، ولئن كان للاعتبارات السياسية بعض التأثير في هذه المرحلة ، فإنه كان سابقا على مجريات الامتحان والتصحيح وذلك حينما يحدد ديوان الامتحانات والمسابقات سلم التنقيط والمعدل الذي يدخل به المترشح دائرة الإنقاذ. وحتى في هذه الحالة فإن ذلك كان يتم من خلال لجان تتكون من أساتذة ومفتشين يتمتعون بهامش كبير من الاستقلالية ، وعند هذا الحد يتوقف تدخل الوزارة في العملية.
هذه الصلاحية قد حافظت عليها الوزارة بعد هذه التغييرات ، وهذا أمر نتفهمه ، لأنه من الناحية العملية يتعذر على مراكز التصحيح أن تُعِدَّ بنفسها الإجابة النموذجية وسلم التنقيط ومعايير النجاح ، لأن كل هذه الأمور يجب أن تكون موحدة وطنيا ، وهذا لا يتحقق إلا من خلال هيئة وطنية واحدة ، والديوان الوطني للامتحانات والمسابقات هو الهيئة المخولة لذلك.
لذلك ظل هذا المنفذ الذي تتدخل من خلاله الوزارة ، قائما ، فكانت الإجابة النموذجية جاهزة ، وكذلك سلم التنقيط ، ومعايير النجاح في المداولات ، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات. ففيما الإجابة النموذجية ينبغي التمييز بين المواد العلمية والمواد الأدبية والإنسانية. فالمواد العلمية لا اعتراض فيها لأن مجال الاختلاف فيها محدود ، أما المواد الأدبية والإنسانية مثل الأدب العربي والفلسفة والاجتماعيات فمجال الاختلاف فيها ممدود ، وهذا ما كان يستوجب النقاش والجدال بين الأساتذة قبل الشروع في التصحيح ، وكان الأمر يأخذ في العادة اليوم الأول ، وأحيانا اليوم الأول وصبيحة اليوم الثاني. كل هذا لم يكن بغرض وضع إجابة نموذجية بديلة ، إنما بغرض التقريب بين وجهات النظر في قراءة الإجابة النموذجية وتطبيقها على الإجابات المحتملة للمترشحين ، والغاية من كل هذا هي ضمان إنصاف المترشح. أما بالنسبة لسلم التنقيط فإن الاعتراض فيه على كيفية توزيع النقاط على جزئيات الإجابة. ذلك أنه يمكن أن يُمْنَحَ لعنصر أساسي في الإجابة نصف علامة (0.5) بينما يُمْنَحَ لعنصر ضئيل الأهمية أو ثانوي علامتان (02) ، فيكون التوزيع حينئذ غير منطقي.
رابعا: المداولات.
كان الأستاذ هو صاحب القرار النهائي والأخير. ذلك أن الوزارة ، من خلال الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات ، كانت تحدد المعدل الذي يسمح للمترشح بالدخول في دائرة الإنقاذ ، وطريقة احتساب المعدل. أما قرار النجاح أو الرسوب فإن لجنة المداولات هي التي تقرر. وقد كانت اللجنة تتكون من الأساتذة الذين صححوا اللجنة التي سيتداولون فيها. فكان كل عضو يجد أمامه ورقةَ النقاط التي كتبها بخط يده. وكان معدل كل مترشح يُحْسب بكل شفافية بطريقة تسمح لكل أعضاء اللجنة بالمشاركة فيه. فكان رئيس اللجنة يطلب من كل أستاذ أن يعطيه العلامة التي تحصل عليها المترشح في مادته بعد أن يضربها في المعامل ، ثم يجمع النقاط ثم يقسم على مجموع المعاملات والمعدل الحاصل هو لذي يقرر مصير المترشح. فإذا حصل على 10/20 فهو ناجح عن جدارة واستحقاق. وإذا حصل على علامة دون 10/20 ، هناك حالتان: حالة عدم كفاية العلامة للدخول في دائرة الإنقاذ ، فالمترشح في هذه الحالة راسب. وحالة حصوله على علامة يدخل بها في دائرة الإنقاذ ، هنا تُدرس حالته وفقا للمعيار المحدد للنجاح بالإنقاذ. وفي كلتا الحالتين هناك إمكانية لتعديل العلامة إذا كانت قريبة من المعدل أو من عتبة الإنقاذ ، وذلك بأن يبادر أستاذ أو اثنان بإضافة نقطة مثلا أو نصف نقطة فإذا أُضِيفَتْ للمجموع حصل على معدل 10/20 ، فينجح آليا أو يدخل في دائرة الإنقاذ فيخضع للدراسة ، وقد ينجح وقد لا ينجح. وكانت عتبة الإنقاذ متغيرة من سنة لأخرى حيث كانت تتراوح بين ثمانية من عشرين(08/20) وتسعة ونصف من عشرين (9.5/20). فإذا دخل في هذه الدائرة يمنح له عدة فرص للنجاح كأن يحتسب له معدل المواد الأساسية التي حصل عليها في البكالوريا ، أو معدل المواد الأساسية التي حصل عليها خلال السنة الدراسية .. ومهما يكن فقد كان مبدأ مساعدة المترشح على النجاح معمولا به لكن كان يطبق بطريقة مضبوطة بعيدا عن ضغوط الوزارة والحراسة ، علاوة على أن الجهد الذي يبذله المترشح طيلة السنة لم يكن مهملا ، فقد كان يُحتسب له دون أن يُحسب عليه ، وهذا الذي كان يشجع الطلبة على الاهتمام بالدراسة خلال السنة.
ولقد كانت المداولات شاقة ، إذ تبدأ على الساعة الثامنة صباحا وتستمر إلى ما بعد العصر ، وأحيانا تنتهي على السادسة وأحيانا الثامنة مساءا ، وهذا بالنسبة لِلَّجْنَةِ الواحدة ، وقد كان الأستاذ يداول في لجنتين أو أكثر مما يعني أنه يلبث في المداولات ليومين أو ثلاثة أيام. لكن في مقابل هذا الجهد كان الأستاذ هو صاحب القرار.
أما اليوم فلم يعد هو صاحب القرار ، لأنه لم يعد يقرر من ينجح ومن يرسب ، فقد استغنت عنه الوزارة بالآلة ، وذلك بعد إدخال الإعلام الآلي في مجريات التصحيح والمداولات. وهنا أخذت العملية مسارا مُتَدَرِّجا. ففي البداية كان الأستاذ يصحح اللجنة ويدفع ورقة النقاط إلى الأمانة التي تدخلها الجهاز الحاسب لتعالج بالإعلام الآلي. وقبل أن تُعتمد النقاط تطبعها وتعيدها للمصحح ليتأكد أنها مطابقة للنقاط التي أرسلها للأمانة وذلك بمقارنتها بالنقاط التي كتبها بخط يده. فإذا تأكد من ذلك يوقع على هذه النقاط ، وهذه النسخة الممضاة من المصحح هي التي يجدها أمامه عند المداولات. وواضح أن إدخال الإعلام الآلي في العملية قد سهل مهمة التصحيح والمداولات دون أن يُجَرَّدَ الأستاذُ من صلاحية اتخاذ القرار ، حيث صار بإمكانه أن يداول في اليوم الواحد في ست لجان أو أكثر ، لأنه يجد المعدلات جاهزة ويبقى عليه فقط أن يراقب صحتها وخاصة تلك الحالات التي تكون قريبة من المعدل دون أن ينجح صاحبها ، وقد أمكن للجنة أن تنقذ الكثير من الحالات وهي تلك التي تتراوح بين (9.99)، و، (9.95) حيث كانت تدرسها أو تحصيها ثم ترسلها إلى الأمانة ليتخذ رئيس المركز قرارا بشأنها.
لكن بعد إنشاء مراكز التجميع نُزِعَت من الأستاذ كل الصلاحيات واقتصرت مهمته على التصحيح ، فيسلم النقاط دون أن يتأكد حتى من صحتها ، فقد أُعْفِيَ من مقارنة النقاط التي كتبها بخط يده مع النقاط التي تدخل جهاز الحاسوب ، ولا ندري إن كانت النقاط التي أرسلها الأستاذ هي التي تُعْتَمَدُ في قرار النجاح أو الرسوب أم نقاط أخرى.
وقد بلغنا أن النتائج في هذه السنة ، 2009 ، سيعلن عنها من مركز واحد في العاصمة. وهكذا نلاحظ أن الوزارة تدرجت في مركزة قرار النجاح ، وفي إبعاد الأستاذ عنه. والسؤال المطروح هو ما الذي دعا الوزارة إلى اعتماد هذه الطريقة غير الشفافة في تحديد نتائج الامتحان. لقد نزعت من الأستاذ المصحح وظيفة المداولات وبالتالي لم يعد هو من يقرر النجاح والرسوب وفقا للمعايير التربوية ، وأصبح القرار بيدها وحدها تقرر من ينجح ومن يرسب ، لا حسب المعايير البيداغوجية والتربوية ، بل حسب الأغراض السياسية. فما أدرانا أن الوزارة حددت سلفا نسبة النجاح التي ترغب في تحقيقها ، وعلى ضوء هذه الرغبة تقوم بالتعديلات المطلوبة في النتائج التي تَرِدُ إليها من مراكز التصحيح بحيث ترفع من نسبة النجاح ثم تعلن أن نسبة النجاح في هذه السنة جاءت حسب توقعاتنا أو أكثر.
هذا التخوف قد يراه البعض مفتقرا إلى أدلة تؤكده ، وهذا اعتراض في محله ، مادامت العملية تتم في غموض. لكن مع ذلك يبقى افتراض تزوير نتائج امتحان البكالوريا قائما طالما أن القرار بيد الوزارة. والقرائن تشير إلى أن هذا الافتراض ليس بعيدا عن التحقق لأن السيد الوزير أصبح يتوقع نسبة النجاح ويخطط لرفعها لتصل إلى 70 % أو أكثر ، فما هي المعطيات التي اعتمد عليها معاليه لمعرفة هذه النسبة ؟ هل هي نتائج امتحانات الفصل الأول ؟ ربما لكن ربما كذلك هو مجرد تغطية على ما ينويه من تحديد نسبة النجاح التي يريدها ، حتى إذا قيل له من أين لك هذا ؟ أجاب إن نتائج امتحان الفصل الأول من السنة الدراسية هو المؤشر.
ألا أيها المتباكون على الديمقراطية المهددة بظاهرة التزوير في الانتخابات ، إن البكالوريا الجزائرية مهددة بالتزوير في النتائج بحيث سيصبح النجاح ليس نتيجة جهد الناجح إنما نتيجة قرار الوزير.
هل يمكن تدارك الخطر؟
نعم يمكن إذا توفرت الإرادة السياسية ، والتي أرى أنها تتجاوز السيد الوزير ، لأن من يُشْتَكَى منه لا يُشْتَكى إليه.
وإن المطلوب حسب رأيي هو:
o أولا: تحرير قطاع التربية من الاستغلال السياسي بحيث لا يُسْتعمل كأداة للإقناع بصواب خيار ما.
o ثانيا: اتخاذ مجموعة من الإجراءات البسيطة لكن الفعالة وعلى رأسها إعادة الهيبة والاحترام لصانع أفراح الناجحين في البكالوريا ألا وهو الأستاذ. وذلك:
- بإعادة النظر في طريقة التصحيح والمداولات بحيث يعاد له صلاحية اتخاذ قرار النجاح والرسوب حسب الطريقة القديمة في المداولات. أما الإعلام الآلي الذي تَذَرَّعَتْ به الوزارة للاستفراد بقرار النجاح ، إن هو إلا أداة تسهل عمل الأستاذ ولا تبرر للوزارة استغناءها عنه.
- إعفاء الأستاذ من كل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها غيره مثل الأعمال البيروقراطية ، وذلك حتى يتفرغ لمهمته الأساسية وهي التربية والتعليم.
وفيما يخص امتحان البكالوريا ، وكذا غيره من الامتحانات التي ينظمها الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات ، فأرى أنه ينبغي إعفاؤه من الحراسة أو إعطاؤه الخيار. إن رغب في الحراسة فله ذلك وإلا فلا إكراه عليه. ولدى الوزارة والحكومة بدائل عدة لملء الفراغ الذي يتركه هذا الإعفاء.
فلها أن توظف شباب الخدمة الوطنية ، أو المتخرجين الجدد من الجامعات قبل توظيفهم ، مثلما اعتادت أن توظفهم في بعض المناسبات كمناسبة الإحصاء السكاني الأخير ، ومناسبة الانتخابات الرئاسية الأخيرة حينما وظفتهم في تأطير المكاتب الانتخابية ، على أن يُجْرَى لهم دورة أو دورات لشرح كيفية العمل وأن يباشروا عملهم أثناء الامتحان تحت إشراف أساتذة من ذوي الخبرة ممن رغبوا في الحراسة.
لماذا هذا الإعفاء ؟
إنه للتخفيف على الأستاذ وللحفاظ على هيبته واحترامه الذي بلغ حَظُّهُ منهما الحَضِيضَ ، وذلك بفعل التحرشات التي أصبح يتعرض لها من قبل المُمْتَحَنين. وأخبار الصحف عنها تشهد عليه.
إن هذا الاحترام وهذه الهيبة شرط ضروري لنجاح الأستاذ في مهمته التربوية. ولا تستغربوا مني هذا المقترح أيها القراء من العامة أو الخاصة أو خاصة الخاصة ، فإن هذا الكائن الذي أخذتني الغيرة عليه يسمى "أستاذا" لا حارسا.
فاجعلوه أستاذا تضمنوا لأولادكم الفلاح والنجاح.